صفحات المستقبل

نثرات بعد الاعتقال


حسين غرير

لم أكن أتوقع أن أبقى صامتاً طيلة شهر كامل بعد خروجي من السجن، حتى أني لم أشارك في نشر بيان المدونين السوريين عن اعتقال الصديقة رزان غزاوي. كنت قد بدأت بكتابة تدوينة خاصة لرزان، وكم أنا خجل منها أني لم أكملها وأنشرها فهذا كان أقل ما تستحقه هذه الطفلة الرائعة. عانيت كل هذه الفترة من الارتباك والحيرة فيما أكتب، فلدي الكثير لأقوله لكني لا أريد قول الكثير أيضاً.

بعد تسع وثلاثين يوماً قضيتها في أقبية فروع الأمن وخلف قضبان السجن خرجت وكأني أولد من جديد، كنت سعيداً أن قدماي وطأتا الشارع مرة أخرى. هرولت مسرعاً لأعانق أمي وأبي وزوجتي ميس ووالدها (أبي الثاني) وكأني أشم رائحتهم وأرى فرحهم ودموعهم لأول مرة. وصلت إلى منزل أهلي وكان الجميع بانتظاري ما عدا أختي ميادة التي تعيش بهولندا بعيدة عنا لأننا لم نثر بعد على ظلمنا لأنفسنا ولمن حولنا. اندفعت باحثاً عن طفليّ، حملتهما وضممتهما إلى صدري وشعرت بدوار جلعني لا أقو على الوقوف، أخذني وإياهما بعيداً إلى عالم خالٍ من الذل والقهر والعبودية، إلى حيث أريد لهما أن يعيشا. نظر إلي ورد ذو الثلاثة أعوام ونصف، نظر باستغراب كمن لا يصدق أني عدت من (السفر)، استمر ذهوله بعضاً من الوقت قبل أن يضحك ويقفز ويعود إلى شقاوته مرة أخرى. أما زين لم يستطع بأشهره العشرة أن يتذكرني، بل فزع من قوة احتضاني له وانفجر بالبكاء، فبكيت معه لأقول له كم أحبه وكم آلمني فراقه.

بضعة أسابيع وبعض معاناة ربما كانت كافية لأعلم كم ضحى أولئك الذين سبقونا و أحرقوا سنين طويلة من أعمارهم وذاقوا الكثير من الألم لتبقى شعلة الحرية مضاءةً في سماء سوريا. أعقتد أني ظلمتهم بطريقة التعاطي مع أخطائهم التي ارتكبوها خلال الأشهر السابقة.

كنت دائماًأقول أنها مجرد محنة وسوف تمضي كما مضت كل المحن في حياتنا، فلم تدم أياً منها إلى الأبد. وكنت أحدث نفسي أن هذه التجربة سوف تبقى خالدة في ذاكرتي وجهدت لأعيشها كاملة بكل تفاصيلها المؤلمة والمفرحة على السواء، ولأنن أدقق في التفاصيل عانيت من خيبات كثيرة سوف أتحدث عنها في الوقت المناسب. أردت أن أتعلم من كل لحظة فيها، هناك تتعلم الصبر والحب والكره والأمل وتعجنهم بك لتصبح شخصاً جديداً أكثر نضجاً إن أردت. استطعت أن أبتسم وأضحك طوال الوقت مع الأصدقاء الآخرين لنعين أنفسنا على التعالي فوق آلامنا، آمنت بقوة الابتسامة رغم بساطتها. كنت أراقب نفسي وأراقب الجميع ودهشت من معجزة الإنسان، دهشت من قدرته العجيبة على المقاومة. كنت أتوقع أن نمرض ونعاني أشد الأزمات الصحية بسبب اتساخ أجسادنا وثيابنا وشدة البرد أحياناً وشدة الحر أحياناً أخرى وبسبب الهواء النتن هناك، إلا أن شيئاً من هذا لم يحدث. كان أحد المعتقلين يعاني من حالة مرضية عصبية ولا يستطع العيش دون أدويته لأن النوبة تصيبه عند تعرضه لأي ضغط نفسي مهما كان بسيطاً، إلا أنها لم تزره طيلة عشرة أيام!

شعرت أني تحررت عندما تحولت إلى سجن عدرا! رأيت زوجتي ميس في القصر العدلي وفرح قلبي أنها وعائلتي بخير وأنهم باتوا يعلمون أني بخير أيضاً. قال لي صديقي “زوجتك أخت الرجال”، نفخت صدري وعرضت منكبيّ ومشيت مغروراً أتحدث عنها وعن أمي وأبي وشجاعتهم في مواجهة الألم لمساندتي.

خرجت أخيراً، خرجت ومازالت غصة في قلبي أن أصدقائي وآلاف آخرين ما زالوا معتقلين، لن أنعم بحريتي حتى أتأكد أنهم أصبحوا في أحضان عائلاتهم وحريتهم.

كم أنا فخور بعائلتي وبأصدقائي الذين أحاطوني بكل هذا الحب الذي اخترق جدران زنزاناتهم وعانقني، شكراً لهم جميعاً، شكراً لسوريا التي جمعتنا الحرية والمحبة والأمل بغد أفضل.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. شيء مؤثر جدا، عندما يكتشف الإنسان أن أبسط عواطفه هي أجمل شيئ بالحياة……..
    أتمنى أن نفرح كلنا قريبا، و تصبح القضبان و كل القضبان ذكرى مؤلمة خارج إطار الذاكرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى