صفحات الثقافة

نحنُ الّذين متنا لأنني بكيت/ رشا عباس

توطئة: ‘في حال ازدادت ظروف الحياة صعوبة، تُعرَضُ هذه القصة للبيع كإعلانٍ لشركة مكيفات حديثة’.

تخلطين بينَ الحرّ وبينك: إلى هذه الدرجة الجوُّ حار وإلى هذه الدرجة كل شيء سيىء.

سترمين بكل ثقلك على الفراش وأغطيته الساخنة، مستسلمةً للحر ولنفسك، لا مشكلة الآن: أنتِ والحرّ شيء واحد. لن يزعجك أحد، لن يطرق الباب عليك أحد.

ربما يدخل عليكِ هو فقط، من حيثُ ستنظرينَ إليه سيعرف، ويتقدم إليك كما تحبين. قد يقعُ في الفخ معك ويمد يده نحوك خالطاً بين الحرّ وبينك. سيمسك الرطوبة الخانقة بيده مترفقاً، أو يجذبها إليه بقوة. على بطنها سيمسح متلمساً الحلية الذهبية في السرّة. بلاستيك المسجلة الموضوعة قربكِ على السرير بدأ يذوب، لكن شريط الكاسيت مازال يعمل. أغنية قديمة تتذكرين أنك شاهدتيها مصوّرة منذ سنوات. امرأة سوداء جميلة تعملُ في مقهى، ترتدي فستاناً يكشف عن معظم صدرها الصلب الذي تهزه بمهارة. ولكنّ أحداً ما من المنزل قد عبث بالشريط ليسجل عليه مادة تعليمية قطعت الأغنية، تعجزين عن البت فيما إذا كانت تدور حول الفيزياء أو حول الطبخ. والأغلب أنّك كنت تخلطين بين الحر وبين أغانيك القديمة قبل قليل.

‘في الحر ستتمدد الأجسام الصلبة حتماً، ذلك ما يتسبب بحوادث كثيرة مؤسفة حول العالم، الخطر دائماً أكثر من مجرد خروج القطارات عن قضبانها المتمددة’

تتمنين الماء المثلج وسيجارة. تفكرين بثقة أنّك بعد شرب الماء البارد وتدخين السيجارة ستقومين بعملٍ ما جيّد، لكن لا سجائر في الغرفة الحارة. ومازلتِ مخدرة ومجبرة على الاستلقاء هكذا. تراقبينه: يمشي عبر الغرفة ويتعثّر، ينفض الرمل عن بنطاله ويحاول السير من جديد مترنحاً من تأثير الحر على الأغلب، ينشغل كل بضع دقائق بالتقاط سراب لكِ، هكذا إذاً..

‘إذا وضعت ضفدعاً في دورق مياه مغلية سيقفز على الفور ناجياً بنفسه، عليك أن تكون أكثر مهارة وفهماً للقوانين إذا أردت قتل الضفدع بالحرارة’.

هكذا تبدوان سوياً لمن يراكما من الخارج.. إنك لا تستطيعين القيام إليه لتدليه عليك.. للمرة الأولى ترينهُ من الخارج هكذا وهو يلاطف امرأة. انظري: أنت لا تشعرين بالغيرة. بلاستيك المسجلة يذوبُ أيضاً حتى أنّ رائحة الذوبان بدأت تصدر عن وصلات الكهرباء، لكن الشريط لا يزال يعمل.

‘ما ستحتاج إليه هو ضفدع ودورق ماء معتدلة الحرارة وشعلة نار’

تخلطين بين الحر وبينك، وتنتظرين وصوله الأكيد في النهاية. لم يتجاوز باب الغرفة بكثيرٍ بعد. يغمضُ عينيه عن رمل الهواء متشبثاً بخاصرة سرابٍ آخر. سيكون في يديه حين يصل إليك الكثير من الشوك وستسألينه عن كل آثار الخدوش تلك. في ظهره آثار أظافر ليست لك وفي عنقه شفاهٌ أخرى يبّسها الجفاف مثل التي عندك. تريدينَ له أكثر..

‘ضع الضفدع في الدورق’

تنتظرين اللحظة التي سيتخطى فيها ملاطفة السراب الذي بين يديه الآن، أن يكمل حتّى النهاية. بدأت تشعرين بالضيق من كل تلك المشاهد غير المكتملة، لا فائدة: يتناثرُ من بين يديهِ ويقع. رأسه يرتطم بالطاولة. خيط الدم الرفيع على خده لم تقومي لمسحه، عندما يصل إليك ستغسلين عنه الدم والرمل وكل شيء آخر. المسجلة البلاستيكية ذابت بأكملها ولم يبق سوى الشريط مستمراً من قلب البلاستيك والمعدن الذائب.

‘ابدأ بتسخين الماء بهدوء شيئاً فشيئاً بإيقاد الشعلة أسفله’

يمد كفّه ليمسح الدم عن رأسه ووجهه، تيبس الدم على الفور مختلطاً بالرمل والعرق، لم يعد مهتماً بملاحقة السراب. يغمض عينيه عن الهواء الحار الذي بدأ يحرق بياض عينيه، ويمد يداً عمياء إلى سطح الطاولة للبحث عن قنينة الماء التي اعتدتِ وضعها هناك.

‘أية مبالغة منك ستجعل الضفدع يندفع قافزاً خارج الماء’

يعثر على واحدة، يرفعها بسرعة فوق رأسه ويفتح غطاءها. مع أول قطرة ماء ذهبية تهمين أن تصرخي به ليتوقف، لكنك خلطتِ مجدداً بين الحرّ وبينك. فأنت لا حنجرة لكِ. حنجرة الحر هي شريط الكاسيت الذي يدور حتى الآن.

‘بقليل من الهدوء والتحكم، سيتاح لك أن ترى الضفدع يستقبل موته مستسلماً ثابتاً في مكانه بعد التدرج في رفع درجة الحرارة، هكذا تكون قد تعلمت كيف تسلق ضفدعاً بإرادته الكاملة’.

اكتشف متأخراً ماذا فعل، بعد ثالث أو رابع عقربٍ صغير سقط على رأسه من القنينة التي رفعها، رماها على الأرض. منها زحفت مئات العقارب الصغيرة الذهبية، تسلقته بسهولة من قدمه المغروزة في بلاط الغرفة وحتى رأسه المدمى. تخلطين بين الحر وبينك وتتبخر دموعك عليه، قبل أن تصل خدك لتتكاثف مع البخار الذي بدأ يتجمع في الغرفة. ينتزع عنه العقارب بلا صوت، هو بلا حنجرة أيضاً. وأنت تبكين عليه، وكلما بكيتِ أكثر سيتكاثف البخار في الغرفة. يهزّ رأسه ليتخلص من العقارب في شعره ناثراً إياها على جدران الغرفة. من خلف البخار تستطيعين تمييز أجسادها القزمة تسيلُ ذائبة ومخلّفةً علامات ذهبية براقة على كل حائط. تخلطين بين الحر وبينك و تتمنين لو كنت تجيدين النواح:

‘أنا وأنتَ والحر شيء واحد، وأريد أن أبكي عليك حقاً لكنّ قواعد اللعبة تدفعني لأتجلّد أكثر: إذا منعت نفسي من البكاء فقد ينجو أحدنا على الأقل وإلا سيكون هناك المزيد من البخار في الغرفة ونختنق معاً. أتعلم ما الذي سيكون رائعاً؟ أن نأخذ لنا صورة والبخار يخنقنا، نعطيها لمصمم الأغلفة من أجل غلاف كتابي الجديد.

سأكتب في الإهداء: ‘نحن الذين متنا لأنّني بكيت’.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى