رستم محمودصفحات الثقافة

نحن الذين ليس لهم سوى السخرية للخلاص/ رستم محمود

 

كم يبدو حالنا تراجيديا، إذ بينما تغرق بلادنا في بحيرة من الدماء والحروب والانتهاكات والفظائع، ترانا نملك قدرة كاملة وميلا شغوفا إلى بما في ذلك ممارسة العبث والفكاهة والسخرية واللهو.

نفعل العبث والفكاهة في كل حيز يتاح لنا، في أحاديثنا الخفية الخفيفة المتبادلة في ما بيننا، في ما نكتبه على شبكات الفيسبوك، من خلال ما يتقنه كل منا من هوايات ومهارات، بما في ذلك منتجاتنا الأكثر جدّة وجدارة، وليس انتهاء بكامل مواقفنا الحياتية والسياسية والثقافية. الفكاهة هوايتنا المحببة، العبث أداتنا لفهم الأشياء والعالم، واللهو شهوتنا العزيزة.

نحن صبية ويفعة وشبان سوريون قادمون من حساسيات وجهويات وأيديولوجيات كثيرة متنوعة، من أمزجة وخيارات وطبقات شتى، كان الجامع الوحيد بيننا هو أن تكون بلادنا أكثر سخاءً في منحنا قدرا كافيا من الكرامة والإحساس البديهي بالأمان. نحن السوريين الذين تحطمت أحلامهم تحت حوافر البنادق والأيديولوجيات والخطابات والمخططات، نحن البسطاء الضعفاء المقهورون المهشمون الذين لا حول ولا مكيدة لهم، الذين ليس لهم سوى السخرية للخلاص من فظاعة الذي يجري، واللهو لتغييب قسوة الموضوعي الواقعي، والعبث لتجاوز الألم الأليم في دواخلنا.

لا، لا ولن نوفر أي شيء، كل جدية ومباشرة واعتداد ونرجسية وهيبة وسلطة رمزية هي في متناول سهام فكاهتنا العابثة. جيشنا الوطني الذي يفتخر بسرقة أسطوانات الغاز، ومعارضتنا الهزيلة المتخمة بالصغائر، رموزنا الإيديولوجية وزعماؤنا القوميون، الإسلاميون، الذين استفاقوا من مناماتهم التائهة في مغارات التاريخ، مثقفونا النرجسيون حاضرنا الدامي، أحلامنا وذواتنا العاجزة العارية الساخطة المترهلة.

لا نكاد أن نصدق أي شيء، مليئون بجسارة صلبة لكشف الأكاذيب ومكاشفة ألاعيب المهرجين. فعبثنا بالضبط، هو، تماماً، على عكس عبث المهرج، إذ يستميت المهرج بخفته وأدواته ومساحيق وجهه لإخفاء الوقائع والأشياء والبداهات، وحتى نفسه. أما نحن، فكل همنا هو الكشف والكسر وتحطيم السواتر، لفضح المدفون المستور المستتر المستبطن.

بالمقابل، لا يكاد أي أحد أن يصدقنا، إذ ليس لنا وزن أو حضور أو قوة أو جبروت، نحن ملتمسو الحواف والهوامش، الصامتون المنبوذون، لا يصدق أحد أحلامهم وحكاياتهم وأوهامهم ومتطلباتهم وأغانيهم، أيتام الصراعات وسبايا الحروب كلها، الذين ما حلموا يوما أن يكونوا مماليك البلاد، ولا سعوا لبرهة لأن يكونوا خطباء المنابر والساحات والقاعات. لا أغرتهم النياشين ولا آيات التبجيل ولا شهرة المشاهير. الذين لا يمشون أمام المرآة وهم يحملون صولجاناً ما في أيديهم، الذين ما رأوا يوماً في مناماتهم أحد عشر كوكباً وشمساً لهم راكعين، الذين ما استفاقوا مرة من شرودهم وهم يصرخون بالناس «أذهبوا أنتم الطلقاء».

نحن الأوفياء لشيء واحد لا غير، أمناء المُتع البسيطة، صباح بشراهة كاملة في التدخين، جلسات طويلة في المقاهي القديمة، أحاديث كثيرة عن مباراة الأمس، غداء خفيف وسريع من تحضير اللحظة، مع ما تيسر من خمائر كروم البلاد، قيلولة من دون كوابيس، ومساءات وسهرات من دون أي اعتبار للمواعيد والتقاليد، وتقديس للمشي الليلي في الحواري الخالية.

كثيرون نحن، مبعثرون في كل مكان، ننفر من كل جهاز أو تنظيم أو سياق أو خطاب، يريد أن يصنع منا جماعة. عصاة نحن على كل لملمة ورتابة وجدية، وإن حدث ذلك، فعلى ماذا نجتمع، ونحن الذين لا نريد أي شيء، سوى أن نعود إلى أيامنا وحوارينا وحياتنا العادية. ولكن كيف لنا أن نجتمع وننظم ونتناسق، أوليس ليجري ذلك فإننا بحاجة لعدو ما، ولو كان عدوا على سبيل الاستعمال الوظيفي، وكيف لنا أن نعادي أحداً، ونحن العابثون اللاهثون وراء اللهو.

نعرف بعضنا البعض جيدا، ويعرفنا الذين لا يشهوننا ويخافوننا، يعرفون ما نفعل بسلطتهم وأوهامهم وفظاعاتهم. يعرفون جيدا مكامن قوتنا وكيدنا الدفين. يخافون من نكاتنا وضحكاتنا وعبثنا ولهونا. يعرفون، تماماً، عجزهم عن تحقيق أي هيمنة علينا أو قبول لهم أو انصياع لأكاذيبهم، لذا ليس لهم سوى إرضاخنا بالقوة الجاسرة. نحن أعداؤهم الأكثر خطورة، لأننا الأكثر اختلافاً عنهم بالأسلحة والأدوات، نحن أعداؤهم الأقل عرضة للرؤية.

في بلادنا ثمة شناعة مركبة، كراهية ناضحة متخمة، حروب وحروب وحروب، افتخار حقير بكثير الأشياء التي ليس لها أشكال ملونة من العار، في بلادنا زغاريد مرحبة بالغزاة والطغاة والقتلة، في بلادنا أناس يموتون جوعاً ورهبة وبرداً وحصاراً، في بلادنا سماوات كثيرة ومنجمون أكثر، مخططون واستراتيجيون ومقاتلون ومفكرون وعباقرة، في بلادنا كل كل شيء ولا حياة.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى