صفحات الرأيمازن كم الماز

نحو جيل جديد من الغاضبين

 

مازن كم الماز

يقترب الإسلام السياسي من خريفه يتحول بسرعة من ظاهرة غضب واحتجاج شعبي على السلطة إلى أداة لإنتاج سلطة استبدادية أو حتى شمولية .. لعقود، منذ الستينيات على الأقل، أعطى جزء من الفكر السياسي الإسلامي، المشتق أساسا من فكر وفقه الخوارج الثوري، أعطى الغضب الشعبي والشبابي القدرة ليعبر ويعلن عن نفسه في مواجهة الواقع والسلطة، وفي مواجهة الفكر التبريري للاستبداد الحاكم .. لكن يتضح الآن أكثر فأكثر أن الإسلام السياسي، المنظم، المؤسساتي وهو يقترب من السلطة اليوم، وككل الأفكار السلطوية، غير مهتم وغير قادر على تغيير الواقع، إنه يكتفي فقط بتغيير السلطة، بإعادة إنتاجها لكن بمبررات جديدة، بكل تفاصيل الخضوع والسمع والطاعة، أي بكل تفاصيل القمع والاستلاب السابقة إن لم يكن بدرجة أعلى من التماسك والشمولية والجهنمية .. إنه غروب جيل الغضب الإسلامي، الذي سرعان ما سيصبح هو نفسه محل غضب المهمشين والمقموعين ما أن يباشر دور السيد الجديد.

قبل ذلك بوقت طويل كانت السلطة، الطبقة الحاكمة والمالكة، قد دجنت اليسار، العلمانية، الحداثة، التي تحولت إلى معازل نخبوية لا أكثر، تغير باستمرار وبهمة مموليها، التيارات الرئيسية فيها على الأقل .. صحيح أن النت والفيس سمحا بظهور معازل ثورية يسارية وعلمانية جذرية خارج وسائل إعلام أنظمة الاستبداد أو البترودولار أو المنظمات غير الحكومية لكنها بقيت هامشية جدا فيما يتعلق بصياغة الوعي العام أو بالتدخل في صيرورة الأحداث .. الحقيقة أن مقاومة المقموعين والمهمشين لم ولن تتوقف أبدا، إنها تستمر دائما لكن بأشكال متعددة ومختلفة، ليس أقلها الأفعال المضادة للقانون لقانون السلطة القائمة والمصمم خصيصا للدفاع عن امتيازات الطبقة الحاكمة والمالكة، وتخريب مؤسسات تلك السلطة أو إعاقة نشاطها، والعنف الموجه لأجهزة عنف السلطة، الخ .. عادة تشعر النخب بالازدراء تجاه هذا النوع من المقاومة وتدينه على أنه تافه غير أخلاقي، بينما تمتدح أشكال مقاومتها هي .. في سوريا مثلا، لا شك أن النخبة قد قاومت استبداد الأسد، ودفعت ثمنا باهظا لقاء هذا، آلاف السوريين قضوا عشرات السنين من حياتهم في سجون الأسد عدا من ماتوا تحت التعذيب، لكن بانقطاع هذه المقاومة أو احتوائها لم تتوقف مقاومة السوريين لاستبداد الأسد، لقد استمرت بشكلها الآخر، الأكثر صمتا، الأكثر يومية وارتباطا بالشارع، في كل زاوية، حيث أمكن للسوريين أن يبارزوا أجهزة قمع النظام ويناوشوها ويهزموها أحيانا.

و فقط عندما أصبحت مقاومة المهمشين جماعية إلى حد ما اندلعت الثورة التي هزت النظام من أعمق جذوره .. لذلك عندما حمل المهمشون السوريون السلاح لم تفهم النخبة بسهولة هذا التحول، وحرصت باستمرار على أن يخضع لضوابطها، الفكرية والإيديولوجية والأخلاقية .. لا تعرف النخبةالمثقفة والسياسية، بما في ذلك المعارضة، كثيرا عن حياة العالم السفلي، حيث العنف جزء من الثقافة اليومية الضرورية، أحد أنماط السلوك اليومي الشائعة، جزء من صراع البقاء الدائر هناك .. كان هذا العنف معزولا عن الطبقات الأخرى بطبقة كتيمة هي أجهزة القمع التابعة للنظام، ومع تفكك هذه الطبقة الكتيمة فوجئ الجميع بالعنف المنفلت القادم من أسفل المجتمع.

و رغم المحاولات المتعددة لتلاوة الوصايا العشرة التي تحترمها الطبقات الأعلى في أي مجتمع: خاصة حرمة الملكية الخاصة وسفك الدم بغير شرع الله أو قوانين الطبقة الحاكمة التي تساوى بالصالح العام، اكتشف الجميع، مرة أخرى، أن أفضل طريقة لتدجين هذا العنف السفلي والسيطرة عليه هو شراءه بالمال، وهي أسوأ طريقة ممكنة من حيث تأثيرها ونتائجها على المجتمع وأفضلها في نفس الوقت من موقع الطبقات السائدة، كما أن شعار الدولة المدنية الذي تتبناه أكثرية المعارضة السورية والطبقتين العليا والوسطى يتضمن فيما يتضمن إعادة بناء ذلك الحاجز الكتيم بين العالم الأسفل في المجتمع وقمته، إعادة إنتاج أجهزة القمع التابعة للسلطة المركزية، بهدف إعادة قوننة عنف العالم السفلي وتقنينه وعزله ومحاصرته من جديد.

لا يشكو الواقع العربي اليوم في مصر وسوريا وغيرها، ولا في الغد بكل تأكيد، من نقص في أسباب الغضب، الشعبي، بين المقموعين، والمهمشين، لكننا اليوم بلا شك أمام جيل جديد من الغاضبين، السؤال هو هل نجد إرهاصاته في أنماط التنظيم الشبابي المستقل عن النخب كالألتراس مثلا أو في حركات مقاومة العشوائيات العنيفة عند اللزوم في وجه تغول رأس المال أو مؤسسات الدولة، أم أن لاهوت تحرير جديد سيبزغ فجره من قلب مؤسسات القمع التي تحاول استعادة دورها في حماية النظام القائم، الجديد، أم فكر يساري أو علماني ‘متطرف’ أو جذري لدرجة لا تعرف المهادنة مع كل عوامل استلاب وتهميش الملايين، بينما تتجه النخب نحو إعادة إنتاج وتنظيم البنية الفوقية عبر أشكال ومؤسسات الديمقراطية التمثيلية لإعادة إنتاج خضوع الأغلبية لها ولدولتها بينما تزعم أنها بذلك تنتج آليات نفي استلاب وتهميش تلك الغالبية ؟ كيف ستقاوم الغالبية تلك الآليات، لا يمكن الزعم بمعرفة الجواب اليوم، الأكيد بغض النظر عن كل شيء هو أن تلك المقاومة ستستمر.

‘ كاتب سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى