صفحات الثقافة

نحو «ذوبان الجليد» آخر في بلاد الصقيع


خيري الذهبي

حين وضع الكاتب السوفياتي إيليا إهرنبورغ روايته (ذوبان الجليد) لم يتضح للقراء مباشرة أنّ هذه الرواية ستكون الفيصل بين مرحلة تسلطت فيها الرقابة السوفياتية على الإعلام والنشر والكتابة بحيث توقف المجتمع الذي قدّم في ما مضى كتَّاباً بقامة دوستويفسكي وتشيخوف عن العطاء ليحل محلهم كتّاب عقائديون لا همّ لهم إلا التبشير بالمجتمع العادل القادم وشتم العالم القديم الذي انتصرت عليه ثورة أكتوبر 1917 وهي تصرخ بأنّ مجتمع الكفاية والعدل قادم. ليس هذا فحسب، بل إنّ مصطلح ذوبان الجليد سيدخل عالم المصطلحات السياسية العالمية ليدل على نهاية مرحلة قسوة الجليد الخانقة وبداية مرحلة من الانفتاح أخرى.

وربما كان آخر ما قدمت روسيا من الأعمال الكبرى رواية (ثم ينساب الدون في هدوء) لشولوخوف، ورغم أنّ الرواية تنقسم إلى قسمين، القسم الرعوي الغنائي شديد الجمال والذي يتحدث عن القوزاق وعشقهم وحياتهم الريفية وطرائق زراعتهم، هذا القسم الذي ربما كان من أجمل ما قرأت من الكتابات الروسية الغنائية، القسم الثاني وهو عن قيام ثورة أكتوبر والذي يتحول فيه شولوخوف فجأة إلى مبشر بالمجتمع القادم العادل، لكنه لا يستطيع قراءة إلى أين سيمضي هذا النظام الذي حل محل كل قوى المجتمع مرة واحدة والذي أعلن أنه سيحقق مجتمع الكفاية والعدل، فحقق الكفاية، كفاية الضرورة، ونسي مجتمع الحرية والعدل، هذا النسيان الذي وصل بالمجتمع إلى ما سيكتب عنه روائي آخر هو ايفيغيني زمياتين في روايته الفارقة (نحن) والتي رأى فيها (المحسن الكبير) وكيف سيروض المجتمع إلى ما فيه (خيرهم) وحين يبدأون بالإعداد للثورة يخرج عليهم بحل وهو انتزاع مراكز الخيال من الدماغ في عملية جراحية (بسيطة) لينسجموا مع ما اختاره لهم (المحسن الكبير). وكانت هذه الرواية – التي لم تنشر في روسيا أولى احتجاجات عالم الإبداع على كابوس سيطرة الفرد الأوحد على المجتمع، فلقد سيطر على الإعلام والقضاء وهما أشد خطورة من السيطرة على الاقتصاد، فهما أداة مراجعة الأخطاء المبكرة، ثم ستكرُّ روايات الخيبة والخوف مما ستؤول إليه تجربة رؤى فرد واحد للعالم، ولكن هذه الروايات ستكتب وتنشر خارج الاتحاد السوفياتي، وهكذا سنقرأ رواية (عالم جديد شجاع) لألدوس هكسلي البريطاني في ثلاثينيات القرن العشرين، ثم سنقرأ رواية (1984) لجورج أورويل في أربعينات القرن، وكلتاهما مختنقة بالذعر مما آلت وتؤول إليه اليوتوبيا التي حلم بها بنو البشر منذ ما قبل مجتمع الكفاية، هذا المجتمع الذي حين تحقق لم يتحقق إلا على حساب مجتمع الحرية والعدالة.

كانت هذه الروايات تصدر خارج الاتحاد السوفياتي، والقارئ السوفياتي لا يدري بها، فهي ممنوعة من الدخول إليه، فهي ملعونة الكاتب والناشر والقارئ، وكان أعضاء اتحاد الكتاب السوفياتي ينفذون بإخلاص أهداف جدانوف من الكتاب، المبرر الوحيد للإنفاق عليها ونشر الاستراحات لأعضاء الاتحاد على البحر الأسود..إلخ. أما هذه الأهداف فكانت تتلخص في معظمها في الدعاية للنظام الجديد والتغني بإنجازاته الصناعية والزراعية والفضائية، والأهم كان انتصاراته في الحرب العالمية الثانية ضد النظام الهتلري، ولكن… ورغم الحصار العقلي والإعلامي ظهر ضمن هذه الجنة السوداء روائي اسمه (بولغاكوف) فوضع رواية لم تنتشر انتشاراً واسعاً حتى انقضى الزمن الستاليني، ففوجئ العالم بجمالها ومرارتها، وكانت هذه الرواية تحمل اسم (المعلم ومرغريتا) وربما كانت هذه الرواية التي شيطنت نظام الكي جي بي ونظام اتحاد الكتاب، مرعى المرضي عنهم ومطارد كل أولئك غير المرضي عنهم، وربما لو أدرك اتحاد الكتاب إيليا أهرنبرغ وسولجنتسين صغاراً لما سمح لهم بالتنفس أصلاً، أما بولغاكوف صاحب (المعلم ومرغريتا) فقد انتهى نهاية مفجعة معزولاً مجهولاً مفقراً، وعاش معاصروه ممن رضي عنهم جدانوف وورثته يرتعون في خيرات الرضا الجدانوفي.

في سوريا

في الثامن من آذار عام 1963 تكاتف مجموعة من الضباط الناصريين والبعثيين وقاموا بانقلاب على الضباط الذين كانوا قد انقلبوا على الوحدة مع عبد الناصر 1958، فسماهم الناصريون والبعثيون بالانفصاليين، وطار عقلنا المراهق في ذلك الحين بأن الانفصال قد سقط وهاهي الوحدة العربية عائدة، ولكن سوريا والسوريين، الآن أدرك كم كانت فتية، قليلة التجربة السياسية، فلم يكن عمرها عند قيام هذا الانقلاب الذي سيصرون على تسميته ثورة والذي أدخل سورية في نفق، الله وحده يعلم متى ترى سوريا نور آخر هذا النفق، لم يكن عمر سورية عند هذا المنعطف يزيد عن السبعة عشر عاماً إلا شهراً قضت معظمها في انقلاب ضابط أو مجموعة من الضباط على ضابط سبقهم إلى الحكم مقلدين ما كان يجري في أميركا اللاتينية والتي عبّر عنها برنارد شو، فقال: إنها انتخابات، لكن بالدبابات والمدافع ومن يملك الكمية الأكثر منها، بديلاً عن أصوات الناخبين، فهو الفائز.

اعتاد السوريون هذه الانقلابات حتى كانوا يرون فيها دائماً الفرج من حكم الضابط السابق الظالم وكان السابق دائماً هو الظالم، مؤملين الخير من الضابط القادم متمثلين بالمثل القائل في كل حركة بركة.

كان أول ما فعل انقلاب الثامن من آذار إلغاؤه الصحف السورية ومديرية الدعاية والأنباء واستبدالها بوزارة للإعلام، ثم إصداره قائمة بمن تعاون أو شكُّوا بأنه تعاون مع النظام السابق، ثم حرموا هؤلاء الناس من صحفيين وكتاب وأكاديميين ومثقفين من حقوقهم المدنية والسياسية، فهاجر بعضهم يبحث عن قدره في بلد آخر، ولجأ بعضهم إلى الخمول والتكيس في بيته في انتظار فرج لن يأتي في حياته، ثم صدر قرار بطرد كل الضباط الذين سموهم متعاطفين مع الانفصال وكانوا في معظمهم من سكان المدن ومن غير البعثيين، ولاحقوهم بالطرد حتى لمن كان طالباً بالكلية الحربية، ولما خلا السلك العسكري من الضباط المحترفين استقدموا المعلمين الابتدائيين من البعثيين ممن أدوا الخدمة العسكرية، وكان من لم يحصل على البكالوريا ويؤدي الخدمة العسكرية يحمل رتبة مرشح ضابط، أو (كاديت) فأدخلوهم دورة ضباط سريعة لعدة شهور صاروا بعدها ضباطاً، هؤلاء هم من دخلت بهم سوريا حرب العام (1967) من دون خبرة، ومن دون تدريب حقيقي، ودون معرفة احترافية بالحرب، فتسببوا لسوريا بكارثة ضياع الجولان المعروفة.

على الجانب الفكري أنشأوا جريدة الثورة، فانضافت إلى جريدة البعث، وكان البعثيون قد انقلبوا على الناصريين في الثامن عشر من تموز 1963 وهكذا خلا الجو للبعث وهرب الناصريون، ممن لم يقتل في ساحة الأمويين أو يقبض عليهم، إلى خارج سورية، ولما كانت الصحيفة الجديدة الثورة بحاجة إلى صحفيين، ولما كانوا قد حرموا كل أو معظم صحافيي ما قبل الانقلاب فقد استقدموا بعض طلاب الجامعة ومعلمي الابتدائي، هذا الخزان البعثي في ذلك الحين، وزجُّهم في الصحيفة (وهذا التعبير محبب إليهم، فكل البعثيين حسب رأيهم يصلحون لكل المهن والمناصب، وما عليك إلا أن تزجّهم) وعليهم أن يتعلموا الصحافة، ولقد شهدت العشرات من هؤلاء المستقدمين المزجوجين وهم يخفقون فيعادون إلى مدارسهم البعيدة، ويستقدم غيرهم، وهكذا ارتقت الصحافة السورية على يد المزجوجين لتصبح صحافة لا يقرؤها حتى من تفرض عليهم اشتراكاً.

كيف تعرفت إلى الصحافة

في أوائل ثمانينيات القرن الماضي طلبوا إليَّ أن أشارك في كتابة زاوية الرأي في صحيفة الثورة، فقبلت، ولما كانت الصحف السورية صحف رأي أصلاً وليست صحف خبر، وكان قد اختفى دور الصحافي المخبر أي محصل الخبر من مصادره، فالصحف السورية كانت تستقي كل أخبارها وأشدِّد على كلمة (كل) من وكالة الأنباء السورية (سانا)، وكان دور الصحافي ينحصر في تلقي الخبر من الوكالة ويعيد صياغته، ولا يضيف إليه حتى التحليل إلا إن طلب من ذلك، فقد قام العاملون بالوكالة بالتحليل نيابة عنه، لذلك كانت زاوية الرأي هي المتنفس للشعب الكاتب بعيداً عن سانا، وكنت أظن هذا إلى أن بدأت كتابة مقالاتي في زاوية الرأي فيها، ولكني مرة إثر مرة أكذب نفسي فيها كنت ألاحظ أنّ جملة قد اختفت هنا، أو جملة أعيدت صياغتها، أو سقطت منها كلمة فتغير المقصود منها، وكانوا حين أعاتبهم أو أراجعهم ينكرون، أو يلقون بالمسؤولية على المصحح أو على المطبعة إلخ. إلى أن ضاق الأمر بي مرة، فقد قارنت المنشور بالمسودة لأكتشف أنهم عبثوا بالزاوية عبثاً فاضحاً، فقررت أن أحمل المسودة والصحيفة إلى المسؤول عن الصفحة وكان مزجوجاً بالمناسبة – فلم أجده وانتظرته أنفخ غضباً وبعد وقت لم أعد أستطيع الانتظار، فقررت أن أمضي إلى مدير التحرير وكان عجوزاً قارحاً محترفاً ممن عمل في الصحافة قبل الوحدة واجتاز كل حقول الألغام حتى البعثي منها وكان لا يهمه من الصحافة إلا المردود المادي. إنها مهنة وعليك أن تتقنها وألا تغضب رب عملك. ولما دخلت غرفته ويبدو أنه عرف أني انتظرت المسؤول الثقافي ولم ألتق به وأني غاضب، فقد تقدم مني محيياً وصب لي فنجان قهوة مرة ملحَّاً، وأخذ يشكو لي متاعب المهنة دون أن يترك لي فرصة للشكوى، ثم أراني مقالة مسودة لمقالة عليها أسهم وإشارات وتشطيبات ومحو وإضافات بالأحمر، وقال: تصور هؤلاء الكتاب، وكنت قد لمحت اسم جلال صادق العظم في رأس الصفحة، وتابع: تقول له: نريدك أن تشتم ياسر عرفات فيرفض، ويكتب عنه، وكأنه يبرر له. بالله عليك. أهذا يجوز؟

كنت أحدق فاغر الفم لا أعرف بم أجيب، فالعظم صديق، وصديق كبير. أيمكن أن يقال عنه شيء كهذا!!؟

وتابع الرجل: طيب لا تريد أن تشتمه. نحن نشتمه، وهكذا كما ترى جعلته يشتمه رغماً عنه. انظر… وأراني الورقة من بعيد: الشتم سهل. يكفي أن تحذف كلمة من هنا وتغير موقع أخرى من هنا فإذا بالعظم يشتم عرفات… وأطلق ضحكة مجلجلة.

حدقت بالرجل غير مصدق وقد فهمت الرسالة تماماً: إما أن تكتب كما نشاء أو نجعلك تكتب كما نشاء، أو… فكر في حل آخر، وفكرت في الحل الآخر، وامتنعت عن الكتابة في الجريدة.

كان هذا الدرس الأول الذي تعلمته في الصحافة السورية وكتابه المزجوجين حتى يتعلموا الصحافة، وطبعاً سأعود عن قراري هذا فيما بعد، فالخيار صعب؛ الخمول والتجاهل ومنع نقاد الصحافة من الكتابة عنك ولو تلميحاً، أو المشاركة ولو جزئياً في اللعبة، ورجعت إلى الكتابة في الصحافة السورية، وكان علي أن أتعلم كيفية اللف والدوران، وعدم التصريح الكامل بما تريد قوله مخالفاً تماماً للدرس الأول في الصحافة في العالم، فتعلمت الكنايات والاستعارات والتورية المتخفي وراءها، وهكذا دخلت لعبة القط والفأر مع الرقيب الذي لا هم له إلا تشمم ما بين ساقيك طيلة الوقت باحثاً عن دليل إثمك، وعليك أن تتظاهر بالبراءة طيلة الوقت.

كتب إهرنبرغ رواية ذوبان الثلج، فهل يمتد بنا العمر لنقرأ ذوبان جليد أخرى في بلد اختنق من طول زمن الصقيع.

(كاتب سوري)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى