صفحات الثقافة

ندّية العلاقة بين المثقف و السياسي


باسم المرعبي

‘على المثقف أن يتخذ موقفاً حتى لو كان الجنون هو الذي يقود العالم’/ بيتر فايس.

اشكالية العلاقة التي يمكن تسميتها ‘بالخطرة’ بين السياسي و الثقافي تُحلّ عندما يتسع الأفق الذي يحتضن الصلة بين المواطن، عموماً، وليس المثقف حِكراً، وبين مؤسسات الدولة وعندما تَحلّ ‘المؤسسات’ محل ‘الأنَوات’ فلا تعود ثمة حاجة لاستخدام مصطلحات أو سياقات تشي بروائح الفردية أو الديكتاتورية من قبيل ‘الحاكم و المحكوم’ كما ترد في قاموس التسلّط والقمع. هذا اذا أردنا الإبتعاد عن الخوض في ‘فلسفة الحكم’ بمطلقه من حيث الإكراه والتعارض مع ما هو فطري أو طبيعي لدى الإنسان من نبذ لأشكال التحكم بل وحتى التنظيم والنظر الى ‘سلطة الدولة’ مهما حازت من ديمقراطية من منظور وجودي محض، فالمفكر أو المثقف عموماً يتحسّس، بطبعه، من فكرة الدولة من حيث المبدأ.

أنطلق من هذه المقدمة لأنني أفهم المثقف باعتباره جزءاً من نسيج اجتماعي متكامل والقوانين التي تنظّم علاقته بالسلطات هي ذات القوانين التي تحيا في ظلها كلّ شرائح المجتمع وفئاته. طبعاً للمثقف مَزيّة بل عبء أن يكون ضمير مجتمعه، أن يكون الدليل والرائد والرائي من دون استعلاء. و اذا ما كانت هناك نزعة ما لإعلاء الثقافة على السياسة فما ذلك إلا لأن السياسة لا تحفل بما هو أخلاقي وكل شيء جائز في مضمارها والمثقف بمعناه الرسولي هو نقيض كلّ ذلك بل انّ مهمته هي هدم كلّ الصروح القائمة والمتأتية من سحق الإنسان.

التأمل في هذه الحال يجدّد فيّ سؤالاً أو أسئلة مؤرقة طالما ألحت عليّ خصوصاً مع كل انتكاسة يمرّ بها بلدنا وما أكثرها. أسئلة تنهض من تراب السياسة: لماذا علينا دائماً أن نبدأ من الصفر؟ لماذا هذا الإنكسار الفظ لأحلام الناس في أبسط متطلباتهم الحياتية؟ فما زلنا نحلم بأحياء وشوارع نظيفة، مازلنا نحلم بمستوصف صحي ومدرسة ومكتبة لكلّ حي سكني فهل هذه متطلبات اعجازية في بلد يعدّ من أغنى بلدان العالم لتنوّع مصادر ثرواته تنوعاً فريداً؟

كلّما رأيت، هنا، سوقاً جميلاً حافلاً بشتى أنواع الحاجيات تمنيت مثله في بلدنا كلما رأيت مكتبة عمومية تفرد قسماً خاصاً للأطفال، وكل المكتبات هنا تفعل هذا، تمنيت مثل ذلك لأطفالنا. كلما رأيت مستشفى نظيفاً متوفراً على أحدث الأجهزة والخدمات تمنيت أن يكون لأناسنا شيئاً مماثلاً.. وكلّما، كلما فإذا بالرؤى لا تنتهي، رؤى الواقع ورؤى الأحلام. وأتساءل متى يمكن لبلدنا أن يحقق مثل هذه ‘المعجزات’ كما فعلت اوروبا؟

متى تُترك بلادنا تشقّ طريقها الى المستقبل، فكم من مستقبل أصبح وراء ظهرها بعد ان بلغَته نكوصاً؟

أريد لأسئلتي هذه أن تبلغَ أنظار و أسماع السياسي فلي الحقّ في وضع أسئلتي كما أشاء طالما أنا أخوض في وضع بلادي ومشاكلها وأحلم لها بالأجمل والأرقى، أحلم بكل ما يمكن أن يصون ويعزّز مواطنيّ.

هنا نقطة التقاء وافتراق المثقف والسياسي. لا يجب أن تكون العلاقة علاقة استعلاء أو ‘استعداء’ بين الطرفين ـ اذا ما افترضنا سوية الظروف وصحّيتها ـ بل ثمة ندّية مؤكدّة يثبتها كلّ للآخر في مختلف المواقف. أتحدّث هنا وليس في بالي مطلقاً اولئك القتلة واللصوص وأشباههم ممن اتخذوا ‘السياسة’ ملعباً و باباً جديداً مفضياً الى النفوذ والجاه و الإثراء مهما كانت الأقنعة التي تقنَّعوا بها والواجهات التي اتخذوها، محوّلين بذلك أحلام الناس الى هشيم مختلط بالدم والرماد.

لذا فإنّ العلاقة بين المثقف والسياسي يحكمها تاريخ طويل من الريبة المتبادلة، ومثلما يُقال عن الساسة انهم باعة كلام فإنه في المقابل ثمة من المثقفين مَن ترنّ أو تصطخب الدراهم في رأسه بدل الأفكار إذ ليس كل المثقفين من طينة ‘ابن المقفع’ الذي قُتل بأبشع صورة على يد ‘سفيان بن معاوية’ والي البصرة في زمن ‘المنصور’ بأمر من هذا الأخير بسبب آرائه في كتاب ‘كليلة ودمنة’ وليس هنا مجال التفصيل في هذا الأمر. ولا هُم على شاكلة ‘يزيد بن مفرّغ الحميري’ الذي ذاق صنوف التعذيب في سجون الأمويين وكان يكتب أشعاره على جدار السجن فيأمره السجّان بمحوها بأظافره حتى تدمى أصابعه وتبان عظامها.

كلمة الحق تكلّف الكثير دائماً وهي الحجَر الأول في اليوتوبيا التي يتحرّق المثقف لتحقيق شيء منها منطلقاً قبل كلّ شيء بالنظر من جديد الى الأشياء والعالم. فالفلسفة الحقيقية هي في اعادة النظر الى العالم حسب رؤية ‘ميرلو بونتي’.

انّ مهمة المفكر الأساسية هي اعادة النظر على الدوام الى الأشياء وهذه مهمة جذرية وهي مهمة ‘سياسية’ بمعنى من المعاني. فليست السياسة انخراطاً حزبياً بل هي موقف مما يجري قبل كلّ شيء، والمفكر أو المثقف المنتج عموماً هو أوْلى من يتصدّى لمثل هذه المهمة.

بهذا المعنى لا تكون ‘الثقافة’، مجسّدة بإنتاجها وأصحابها، شيئاً عائماً في الهواء لا ملامح ولا أثر له. بل هي في صميم الحياة إن لم تكن فاعلة في صنعها و تشكيلها فلا تعود ـ أي الثقافة ـ محتجزة أو محدّدة في مجال لا تحيد عنه إما تعالياً أو ضعفاً.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى