صفحات الرأيمحمد سيد رصاص

نزعة الاستعانة بالخارج في السياسة العربيّة الحديثة/ محمد سيد رصاص

 

 

منذ هزيمة العثمانيين في حرب 1877 مع الروس، انتشر شعور لدى مواطني الدولة العثمانية بقرب تفكّك الدولة. بعد قليل من تلك الحرب، بدأت فكرة القومية العربية بالتكوّن كجنين، لدى نخب متعلّمة ومسيّسة في بلاد الشام، فيما ظل الجمهور العربي المسلم، بغالبية كاسحة، ينظر إلى السلطان عبدالحميد الثاني بوصفه خليفة للمسلمين، ويرى في «الجامعة الإسلامية» الرابطة الوحيدة. كانت باريس متحمّسة لموت الدولة العثمانية وعينها على سورية الطبيعية وساحلها عند شرق المتوسط. أما لندن، فكانت متردّدة ولم تحسم أمرها إلا بعد أشهر من دخول العثمانيين الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 1914.

لم يمنع التردّد الإنكليزي من أن يطرح شخص بريطاني، هو ويلفريد بلنت، في عام 882 في كتاب صدر في لندن تحت عنوان «مستقبل الإسلام»، فكرة تحويل الخلافة الإسلامية إلى العرب ونزعها من السلطان العثماني، وأن يتولاها شريف مكة، سليل الرسول، في إطار «دولة بابوية إسلامية». بعد ثمانية عشر عاماً، أعاد طرح الفكرة عبد الرحمن الكواكبي في كتاب «أم القرى»، وهو منفي حلبي عاش في مصر هرباً من العثمانيين، وقد حظي برعاية خصمين كانا يتنازعان في القاهرة: الخديوي عباس والمعتمد البريطاني كرومر. كان طرح الكواكبي نقل الخلافة الى العرب، وليس الاكتفاء بزعامة روحية. في تلك الفترة، كانت هناك أفكار عند مسؤولين بريطانيين، مثل الجنرال كتشنر، تقول بإطلاق رصاصة الرحمة على «الرجل المريض»، فيما لم يكن كرومر بعيداً عن فكرة تحويل القاهرة إلى وريثة بريطانية للممتلكات العربية العثمانية. بدوره، كان الخديوي، بين موالاة العثمانيين، ولو كرهاً بالإنكليز، ومعاداتهم، يفكّر بالخلافة. تحوّلت القاهرة بين عامي 1895 و1908 إلى مركز للمعارضة العربية للعثمانيين وكانت متركّزة في جالية «الشوام»، ومعظمهم من مسيحيي لبنان بجبله وساحله، في رعاية المعتمد البريطاني. كان آل تقلا في «الأهرام» أكثر ميلاً الى باريس وليس الى لندن، بخلاف فارس نمر صاحب «المقطم» و»المقتطف». لم تقتصر نزعة الاعتماد على الخارج على «شوام» مصر، بل امتدت إلى الشيخ محمد عبده، صديق جمال الدين الأفغاني ونصير أحمد عرابي، ليعتمد على كرومر في تنصيبه مفتياً على الديار المصرية عام 1899 ضد إرادة الخديوي، مستغلاً «توبته السياسية» ومراهناً على نزعة إصلاحية إسلامية، رآها المعتمد البريطاني عند الشيخ المصري مفيدة للمصالح البريطانية في أرض الكنانة، ويمكن أن توظّف ضد السلطان العثماني الذي بدأت لندن تشعر في مستعمراتها الإسلامية بخطر طرحه «الجامعة الإسلامية». في المقلب الآخر، كان المنظِّر الأول للقومية العربية، وهو نجيب عازوري (مواليد عازور، جزين- لبنان 1870- 1916)، ذا هوى فرنسي ومرتبطاً بالدوائر الرسمية في باريس، وقد تأسست جمعية «العربية الفتاة» عام 1911 من طلاب عرب في فرنسا، ويبدو أن جذرية باريس ضد العثمانيين بالقياس إلى تردّد لندن، جعلت «العربية الفتاة» و»حزب اللامركزية» يقبلان بالحضن الفرنسي حين عُقد «المؤتمر العربي الأول» في باريس في حزيران (يونيو) 1913، وقد كان دينامو المؤتمر شكري غانم المرتبط اللصيق بالدوائر الفرنسية، ورأسه الشيخ عبد الحميد الزهراوي، الذي قاده إلى المشنقة في 6 أيار (مايو) 1916 ما كشفته وثائق القنصليتين الفرنسيتين في بيروت ودمشق حين كان القنصل هو جورج بيكو، الذي أبرم في 16 أيار 1916 مع البريطاني مارك سايكس (اتفاقية سايكس- بيكو).

لم تنتج «الثورة العربية الكبرى» بقيادة شريف مكة وبرعاية بريطانية، في 10 حزيران (يونيو) 1916، أكثر من جعل الانهيار العثماني باباً إلى تنفيذ «سايكس- بيكو» ومرافقها «وعد بلفور». كانت تجربة «القوميين العروبيين» لمرحلة ما قبل 1918 خائبة ومريرة، من حيث حصيلة الاستعانة بالخارج الأجنبي، وقد كانت هذه التجربة هي السبب في نزعة الاستقلالية الوطنية، ورفض الارتهان للخارج عند الجيل العروبي الثاني في «حزب البعث العربي» عام 1947، وفي «حركة القوميين العرب» 1951، ثم عند عبد الناصر، وربما كان مليئاً بالرموز هنا مشهد عودة الأسرة الملكية الهاشمية في بغداد على ظهور الدبابات البريطانية في حزيران (يونيو) عام 1941، بعد هزيمة رئيس الوزراء العروبي رشيد عالي الكيلاني. كان العروبيون الجدد ذوي وسواس يقيهم ويمنعهم من الاستعانة بالخارج (المقصود هنا الخارج الأجنبي غير العربي)، فيما كان المعادون للعروبيين في معسكر اليمين في وضعية السلف لعروبيي ما قبل 1918: في أسبوع الهجوم على سيناء وقناة السويس من ثلاثي (تل أبيب- لندن- باريس)، 28- 31 تشرين الأول (أكتوبر) 1956، اكتشف العقيد عبدالحميد السراج مخططاً لسياسيين وعسكريين سوريين، كان يهدف بالتوازي إلى قلب الأوضاع في دمشق برعاية لندن وبغداد (مع دور لم ينجل حتى الآن لواشنطن)، ضمّ سياسيين من حزب الشعب (عدنان الأتاسي- منير العجلاني)، وسياسيين يمينيين مستقلين (ميخائيل ليان- حسن الأطرش- هايل سرور)، والحزب السوري القومي، وضباط منفيين، منهم الرئيس السوري السابق أديب الشيشكلي.

في عام 2006، قدّم وليام زيمان أطروحة الدكتوراه في التاريخ في جامعة ولاية كاليفورنيا التقنية بعنوان: «العمليات الأميركية السرية في العراق: 1958- 1963»، يكشف فيها بالوثائق تعاون حزب البعث العراقي مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في تنفيذ انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 ضد عبدالكريم قاسم، وحليفه الحزب الشيوعي العراقي. يبدو أن التوق الى الثأر من مذابح الشيوعيين للبعثيين في الموصل في آذار (مارس) 1959، بعد فشل حركة العقيد عبد الوهاب الشواف، دفع البعثيين إلى مدّ الأيدي للخارج في مجتمع ضعيف اللحمة الداخلية، ويكون الدم ممر نزاعاته السياسية الرئيسي. في الشهر الأول من عام 1970، كشف البعثيون العائدون الى السلطة بين 17 و30 تموز (يوليو) 1968، مخططاً انقلابياً عسكرياً برعاية شاه إيران، وبزعامة العميد عبد الغني الراوي، كان يشارك في التخطيط له الملا مصطفى البرزاني والسيد مهدي الحكيم (شقيق محمد باقر وعبد العزيز أبناء المرجع السيد محسن الحكيم)، وصولاً الى رئيس الوزراء السابق عبد الرزاق النايف. وفي عراق 17 تموز 1968- 9 نيسان 2003، تعاونت قوى عراقية عدة مع الخارج الإيراني، واستعانت به لمحاولة الإطاحة بالسلطة القائمة في بغداد، وكان التعاون علنياً سياسياً وعسكرياً (الملا البرزاني في تمرّد 1974- 1975، فيلق بدر، جلال طالباني وقواته العسكرية التابعة للاتحاد الوطني الكردستاني)، وكانت لحزب الدعوة علاقات مع نظام الشاه ومع نظام الثورة على الشاه، فيما تم تأسيس «المجلس الأعلى للثورة الاسلامية» في إيران عام 1983، ولم يكن الحزب الشيوعي بعيداً من العلاقة مع إيران في فترة الحرب العراقية – الإيرانية. بعد حرب 1991، أقامت القوى العراقية المعارضة لصدام حسين علاقات مع واشنطن، وصولاً إلى مؤتمر لندن للمعارضة العراقية في الشهر الأخير من عام 2002، برعاية المسؤول الأميركي زالمان خليل زاده. بعد ثلاثة أشهر من سقوط بغداد، جمع الحاكم الأميركي للعراق بول بريمر يمين المعارضة العراقية ويسارها في «مجلس الحكم».

في مؤتمر لندن، لخّص جلال طالباني فلسفة عملية الاستعانة بالخارج، قائلاً: «لم نستطع التغيير بواسطة قوانا الذاتية. يجب أن نكون واقعيين ونقرّ بذلك. القضية تم تدويلها ولنا الحق في المطالبة بدعم دولي ويجب ألا نخجل».

هذه النزعة العراقية وجد مثيل لها في مجتمع منقسم مثل سودان عمر البشير عند كل أطراف المعارضة.

وكان العجز عن إحداث التغيير عند المعارضة السورية، والضعف الذاتي لهذه المعارضة، وعدم توافر العامل الموضوعي للتغيير أو لحراك اجتماعي نحوه، مجموعة عوامل دفعت نحو تنامي جنين نزعة الاستعانة بالخارج في أوساط واسعة من المعارضة للسلطة في دمشق، تشجّعاً بالمثال العراقي المعارض الذي استعان بالأجنبي في إسقاط صدام حسين. جسّد «إعلان دمشق» /16تشرين الأول 2005/ ولادة هذا الجنين، ولو أنه انقسم في 1 كانون الأول (ديسمبر) 2007 مع خروج الناصريين والماركسيين منه ضد سيطرة الليبراليين الجدد والإسلاميين، على خلفية تأييد الأخيرين لـ «نزعة الاستعانة بالخارج» لإحداث التغيير، وهو ما فعله «إعلان دمشق» منذ زيارة نيكولا ساركوزي الى دمشق في أيلول (سبتمبر) 2008، وتقارب أوباما معها في العام التالي، لكن للاستعانة بالخارج نحو «تحقيق انفراج» وتخفيف القيود على المعارضة.

بعد درعا 18 آذار 2011، خفّت نزعة الاستعانة بالخارج عند المعارضين، تشجّعاً بالحراك السوري. ولكن، عندما فشل هذا الحراك في تحقيق ما جرى في تونس ومصر، عاد معارضون سوريون كثر إلى التشجّع بالمثال الليبي حين أسقط «الناتو» القذافي من باب العزيزية في 23 آب (أغسطس) 2011. أتى تشكيل «المجلس الوطني السوري» في اسطنبول في 2 تشرين الأول 2011 أملاً بتكرار سوري للمجلس الليبي، وبأن يكون رجب طيب أردوغان في مكان ساركوزي. ورث «الائتلاف الوطني السوري» /11-11-2012/ «نزعة الاستعانة بالخارج» من المجلس، ولو أنه ارتطم أيضاً بحيطان فشل الرهانات المتكررة والخائبة.

السؤال الآن: لماذا وجدت أمثلة حميد كرزاي وأحمد الجلبي والجنرال بيتان وحتى سعد حداد، هذا الانتشار في السياسة العربية الحديثة؟

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى