صفحات مميزةعلا شيب الدين

نزعتان تقوّضان التكافؤ الإنساني في سوريا/ علا شيب الدين

كل شكل من أشكال التغيير المجتمعي، يتحمل مسؤوليته الناس جميعاً، حيث لكلٍّ دوره فيه، ويُفترض ألا يعتقد أحد أنه ممثل التغيير ومحتكره، إذ لا يمكن أن يمثل أحدٌ أحداً إلا على سبيل التضليل والوهم والخداع. هكذا، سمحت ثورات “الربيع العربي” – الذي لا نتفق مع مَن ودّعوه ونعوه- باعتبارها شكلاً فذاً من أشكال التغيير في عالمنا المعاصر، بالانتقال من التراتب العمودي الذي طالما كان سائداً قبل اندلاع الثورات، إلى الحيّز الأفقي الحي النابض.

التمثيل

أفسحت الثورة السورية باعتبارها واحدة من ثورات الربيع نفسه، المجال أمام جميع الناس التوّاقين إلى التغيير لكي يساهموا في إنتاج الحقيقة، بشكل أو بآخر، بعدما أخذ الأفراد على عاتقهم الدفاع عن حرياتهم بأنفسهم من خلال قنوات كثيرة، لعل الاحتجاج السلمي في الشارع كان أهمها. إذ ما عاد في إمكان ما يُسمَّى – بحق أو بغيره- “نخبة”، أن تحتكر الدفاع عن الحرية والحق والخير والجمال، كون هذه لكل الناس، وما من أحد أولى فيها من أحد، لا بل إن مَن يرتضي لنفسه أن يكون راكداً منتظراً الآخرين لكي يدافعوا عن حريته وحقوقه وكرامته، يكون كمَن يسلّم نفسه هبة خالصة لمَن يتلاعب بكيانه الإنساني، أو يكون أنانياً جشعاً من ناحية انتظاره أن يدفع غيره ثمن حريته هو، خصوصاً بعدما بيّنت التجربة أن السعي إلى الحرية قد يكلّف المرء حياته.

قد لا نجانب الصواب، عندما نعتقد هنا أن بعضاً ممن اعتبروا أنفسهم “نخبة” لها وحدها الحق في الدفاع عن الحرية والديموقراطية، قد عادوا الشعب في ثورته الطامحة إلى الخلاص من الاستبداد والاستعباد، كونهم شعروا ربما أن ثمة مَن استلّ منهم سلطتهم، وبات يدافع عن حريته بنفسه، وما عاد محتاجاً إليهم. شكّل ذلك صدمة لأولئك الذين ارتدّوا إلى طائفيتهم، وتغلّبت عندهم إرادة الهوية الطائفية على إرادة الحرية، لطالما كانوا يستمدون شرعية وجودهم من مهمَّشين كان يجب أن يظلّوا مهمشين ساكتين ومغيَّبين لكي تستمر الشرعية المتهافتة تلك!

ثمة طراز آخر ممن يُسمَّون “نخبة”، أيّد ثورة الحرية، إلا أنه لم يتعاط مع نفسه باعتباره فرداً من شعب ثائر، بل بدا كأنه يريد تمثيل الثورة رمزياً. غالباً ما تكشف قراءة ما بين السطور في نصوص هذا الطراز، أو في تصريحاته ومواقفه، نزوعاً إلى اعتبار نفسه كأن لا أحد أولى منه أو أهمّ في الحديث عن الثورة. ناهيك بذاك الشعور أن لكلٍّ “مشروعه” الذي يبدو كأنه يسعى من خلاله إلى احتكار تمثيل الشأن العام في الثورة. منطلقاً في ذلك، من تصوراته – المحقة أو غير المحقة – عن نفسه أنه الأجدر لإنتاج الديموقراطية والحرية والعدل والمساواة، كأن الناس جميعاً قاصرون وجاهلون!

* * *

قد يقول قائل إن “النخبة” تختلف عن الثائرين في كونها موضوعية لا انفعالية. لكن تحت شعار الموضوعية، يتناسى القائل أن الأحداث الواقعية التي ولّدها الشعب الثائر في شرائحه كافة، والتضحيات والبطولات التي قدّمها، كانت أساساً لـ”موضوعية” “النخبة”، ومادة أولية تدخل في تركيب الإنتاجات الثقافية كافة. ما يحتاج إليه الواقع ليس مثاليات خادعة، ولا استعراضات نجومية تفضي إلى تكريس فكرة “الجندي المجهول” بما تنطوي عليه تلك الفكرة من مكر سلطوي وخبث.

ليس المقصود هنا تغييب أي “دور”، إنما يُراد تأكيد تنوع الأدوار وغناها، وتفنيد الحضور الطاغي لبعض الشخصيات. الحضور الذي من شأنه التغطية على الصانعين الحقيقيين للحدث وقطف ثمار أفعالهم. أليس هذا ما آلت إليه بعض المواقف؟. فـ”احتراف” مواقف جلّ همّها انتقاد الفاعل الحقيقي- بحق أو بغير حق – في كل ما يفعله، أو الحطّ من شأنه، حتى لكأنك تظن بعض المنتقدين، باتوا ممثلي الثورة وحرّاسها الشخصيين! يشعر المرء أحياناً أن الغاية من وراء ذلك، قد تكون بناء الأمجاد وحصد الجوائز في “الديموقراطية” و”الشجاعة” و”السلمية”، كأن لهذه كلها عنواناً محدداً مرتبطاً بهذا أو ذاك! احتراف المواقف تلك وغيرها، من شأنه الانتقاص من قيمة الناس، وإعدام قدرة الثائرين على تجاوز أخطائهم من دون الرجوع إلى “ممثلين وحرّاس وحكماء وشيوخ”؛ وتعميق تهميش المهمَّش الذي ما كان ليقوم للثورة قوام لو لم يكن إحقاق حقوقه ركناً أساسياً في اندلاعها.

ما الذي فعلته “شفقة” إحدى نجمات هوليوود مثلاً، أو أي مسؤول أممي “رفيع المستوى”، على السوريين في مخيمات اللجوء وغيرها أمام الكاميرات، غير مزيد من التقزيم لثائرين اجترحوا المعجزات في سبيل الانعتاق من ديكتاتورية مجرمة، ومزيد من “العملقة” لنجمة سينيمائية، ومزيد من المعجبين بأنثى حسناء مدافعة عن الفقراء، وحانية على الأطفال المشردين؟! ما الذي فعلته بعض “الشاشات”، منذ أكثر من عامين ونصف العام، غير استعمال السوريين ومآسيهم كـ”مادة إعلامية”، خصوصاً عندما “تعرض” بعض الشاشات التابعة لحكومات إقليمية مثلاً، عذابات السوريين من أجل تخويف شعوب الحكومات تلك، والتقليل من شأن السوريين كثائرين جديرين، لصالح تقديمهم إعلامياً عبرةً مريرة ومحزنة لكل شعب يفكر في الثورة على نظامه؟! أليس هذا ما يمكن استشفافه – مثلاً- من عبارة: “لا شيء يتغيّر سوى أعداد القتلى”، التي دأبت إحدى الفضائيات على بثّها مكتوبةً بعد كل “عرض” لمآسي السوريين؟! ناهيك بالأرباح التي يدرّها السوريون المنكوبون والثائرون بوصفهم “مادة إعلامية” على “المستثمِرين”. يريد بعض الأشخاص الحقيقيين أو الاعتباريين، من تقديم أنفسهم كـ”ممثلين” للثورة والثائرين، رسم صورة ذهنية مفادها الحرص على استبدال واقع بآخر، بينما يتعلق الأمر بخلق حقائق جديدة، ووقائع جديدة تغيّر الواقع على الأرض كلّياً وجذرياً.

التنجيم

التنجيم: مصطلح مقترَح، يعني رفع شخص إلى مرتبة المثل الأعلى واعتباره نجماً، وتنزيهه من الشوائب والنقائص، في حالة من تضخيم قيمته وأهميته. غالباً ما يكون التنجيم الذي يمارسه البعض ممن أدمنوا قزميتهم أمام “الكبار”، نتيجة الحضور الطاغي لأشخاص يُسمّون “نخبة”، يبدون فيه كأنهم يحتكرون – بقصد أو من دونه – المشهد الثوري إعلامياً. غالباً ما يكون اللقب: كتعريف نهائي، تبسيطي، يختزل الشخص ويختصره، يحدِّده ويقولبه، احدى أدوات التنجيم. حقاً إن الملقَّب قد لا يكون مسؤولاً مسؤولية مباشرة، عن اللقب الذي أُطلق عليه، بيد أنه مسؤول إلى حد ما، عن الموافقة عليه. “إذا سمّيتكَ؛ فلا تتسمَّ”، يقول النفري.

لا عجب عندما ينطوي لقب من طراز “داعية سلام” مثلاً، على حرب حقيقية خلف “التبشير” أو “الدعوة” الظاهرة إلى السلام، ما دام مَن يتماهى مع دور “الداعية” يصير بمثابة شيخ باحث عن مريدين، ويفترض نفسه مسبقاً أنه السلمي الوحيد، وأن السلام في حوزته، وفي ما عداه مجرد كائنات حربية، يجب أن يدعوها إليه، كون السلام “في جعبته” وهو المسؤول عن “توزيعه”! جرت العادة، أن يقدِّم “دعاة” السلام أنفسهم، كحياديين في منأى من أي موقف أو طرف سياسي. في حين أن الحياد الذي يماهي بين شعب ثائر ونظام جائر، بين الضحية والجلاد، أو بين الطرف الذي طالما كان “سبباً” للمآسي والكوارث، والطرف الذي يجسّد “النتيجة”، هو موقف سياسي أيضاً، ولا أخلاقي، يختلف عن المواقف السياسية الواضحة (مع – ضد)، في كونه لا قوام متماسكاً له، إنما فقط يحاول الافادة بحكم موقعه في الوسط، من هذا وذاك، ويساهم في المزيد من “التمييع” و”التعمية”. قد يكون مفيداً هنا لفت الانتباه إلى أن مؤتمراً مثل جنيف2 لـ”السلام”، الذي قد لا ينعقد، يندرج داخل الإطار المائع والتضليلي ذاته. وخصوصاً أن زعماءه – الروس تحديداً، الذين طالما قُتل الأطفال السوريون والنساء والأبرياء بسلاحهم الذي لم يتوقفوا لحظة عن إرساله إلى حليفهم الأسد ونظامه- يشكلون جزءاً حقيقياً من الحرب. تكمن المفارقة هنا، في أنه كلما استعرت نظريات السلام وتنظيراته؛ استعرت نار الحرب عملياً، بشكل يذكّر، في معنى ما، بالموقف الايديولوجي المخادع الذي كلما زايد متبنّوه على الناس بوحدة الأمة العربية ورسالتها الخالدة؛ ازدادت الأمة – على أرض الواقع- فرقة وشرذمة!

* * *

هناك مَن يمارس العنف الفيزيائي، وهناك مَن يمارس العنف الرمزي. محاولات الاستئثار بالمشهد الثوري، واختطاف الضوء، وتكريس أسماء بعينها، وغير ذلك، هي نوع من العنف الرمزي الذي قد يدفع المهمَّش المقهور ذا التكوين السيكولوجي الهشّ إلى اقتراف كل ما يمكن أن “يشهره” أسوة بـ”مشاهير الثورة”، خصوصاً عندما تفشل الطرق السليمة في تحقيق مراده، أو عندما لا يجد مَن يعزِّز الطاقة الثائرة لديه، ويقدِّرها بالشكل الذي قُدِّر فيه هذا أو ذاك ممن باتوا “نجوماً” يتحدث القاصي والداني عما فعلوه هم بالتحديد من بين ملايين الثائرين والثائرات، الجديرين والجديرات! عندئذ، قد يجد نفسه مضطراً إلى سبر طرق غير سليمة، إذا كانت هذه ستفضي في نهاية المطاف إلى الشهرة المبتغاة. ربما يتمنى أحدهم أن يُضطهد، أو قد يسعى إلى تشكيل صورة معينة عن نفسه، هي غالباً صورة المعنَّف، أو الملاحَق والمهدَّد، بغية جذب الانتباه إليه، وجرّ الآخرين إلى التكلم عنه كـ”بطل”، وقد تُرجِم هذا الطراز من المازوشية فعلياً وعملياً، في وقائع عدة معروفة ليس هنا مجال التفصيل فيها.

تصيب المرء الدهشة إن هو راح يفكر في تهميش المهمَّش للمهمَّش ولنفسه، عندما يعمد إلى تنجيم هذا أو ذاك من الفنانين والممثلين، ونعت أولئك بألقاب من مثل “أسطورة”، “طفرة” وغير ذلك، كونهم مناصرين للثورة، ويشرد فكره: أليست “النجوم البشرية” كائنات أرضية، شعباً؟ لِمَ شكرهم أو امتداحهم إذاً عندما يكونون مؤمنين بـ”ثورة شعبية” ومؤيدين لها؟! تبلغ الدهشة أوجها، عندما يصير اعتقال شخصية عامة مثقفة مثلاً، أهم بما لا يقاس من اعتقال المطمورين والمغمورين وغير المتعلمين. كأن الماهية الإنسانية ليست واحدة! أو كأن الموت لا يساوي بين البشر ويضع المصير الإنساني في متاهات وحدةٍ لانهائية!

هذا المأزق، أو هذا الصراع الفكري والواقعي، لا يمكن الخروج منه في رأينا، إلا بصوغ كل ما من شأنه تجاوز نزعتَي التمثيل والتنجيم دفعة واحدة، وإعادة ترتيب العلاقة بممتهني الفكر والثقافة والفن والإعلام والسياسة، وبالعالم، من خلال الاتكاء على وعي يتساءل، ينقد، يتفكر، يفكك، يغامر، يحلّق، يحطّم الأصنام في شتى أشكالها ونماذجها، أسوةً بصنم الحاكم المستبد، يقوِّض علاقات السيادة والتبعية، ويسعى إلى بناء علاقات (أنا – أنت)، أي علاقات ديموقراطية أساسها التكافؤ الإنساني، والاعتراف المتبادل.

 كاتبة سورية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى