صفحات الثقافة

نساء محمود درويش/ محمد حجيري

 

 

خلال فترة وجيزة، انشغل الرأي العام بموضوعين يتعلقان بحياة الشاعر الفلسطيني محمود درويش الحميمة. الأول، ما قيل عن “اكتشاف” حبيبته ريتا اليهودية من خلال الفيلم الوثائقي “سجل أنا عربي”، والثاني كتابة رنا قباني (زوجة درويش السابقة) أجزاء متفرقة من مذكراتها وتجربتها معه في صحيفة “القدس العربي”، وما زالت تكتب بشكل متقطع.

وبين ريتا (اليهودية) التي بقيت امرأة مجازية لعقود، وأصبحت حكاية ممجوجة منذ اكتشفتها وسائل الإعلام، ورنا قباني الدمشقية، ومحمود درويش الشاعر، ثمة مجموعة من الأفكار يمكن التأمل في حيثياتها ومقاربتها، تتعلق بحياة الشاعر والنساء العشيقات في حياته وعالمه المجازي. فعشق الشعراء المعلن يبدو نادراً في العالم العربي، بل يتسم بالعقد والمشكلات بدءاً من عقد السياب مع المرأة مروراً بعلاقة خليل حاوي مع ديزي الأمير.

وأن يلجأ البعض إلى الاهتمام بالجانب الحميم من حياة درويش، فهو يدرك من أين تؤكل الكتف. ومن يراقب مطالبة القراء لرنا قباني بكتابة المزيد عن علاقتها بمحمود درويش يدرك سحر هذا الشاعر. فهو، الراسخ في الوجدان الشعبي والثقافي، يصبح لسيرته وقع مختلف إذا ما تعلق الأمر بالمرأة والحب. ومن يتأمل الاهتمام الواسع بفيلم “سجل أنا عربي” عن ريتا اليهودية، يعرف أن العنوان التسويقي يغلب الجوهر. فبمجرد أن يقال إن الفلسطيني، حامل لواء القضية الفلسطينية، أحب يهودية، تصبح المفارقة نارية (رغم أن المعلومة قديمة ومعروفة لكنها ضاعت مع الوقت في الأدلجة)، كأنها سيناريو متخيل لفيلم يروجه “دعاة السلام” والأفكار الرومانسية.

وفي جانب منها، تذكرنا علاقة ريتا اليهودية بدرويش بالعلاقة الغرامية بين الإسرائيلية الصهيونية المتطرفة غولدامائير، والبرجوازي اللبناني الفلسطيني عاشق الخيول ألبير فرعون، وقد كتبها الروائي اللبناني سليم نصيب في رواية “العشيق الفلسطيني”. كذلك نتذكر العلاقة العاطفية التي كانت تربط (النازي) هايدغر بالفيلسوفة الألمانية (اليهودية) حنا أرندت، بين العامين 1925 و1930. ولعل أمر هذا الحب ظلّ غامضاً بل لم يكن معروفاً إلى حين تمّ نشر رسائلهما المتبادلة، للمرة الأولى، العام 1998.

ثمة تناقضات تحيط علاقة درويش بريتا. ثمة بلبلة وتوجس، خصوصاَ لدى بعض محبي الشاعر. فريتا “لا وجود لها في الواقع، كانت نسيجاً شعرياً من وجوه كثيرة” بحسب رئيس تحرير “الكرمل” حسن حضر الذي يضيف: “لا معنى لريتا الواقعية، أو المتوهّمة، خارج حضورها المجازي باعتبارها علاقة مستحيلة، على أنقاض بيت العائلة”. كان خضر مستاءً من استغلال اسم محمود درويش وإحدى أشهر قصائده من أجل موضوع مجازي لا يتعدى الصورة التذكارية. لكن الأمور ليست مجازية فحسب، بل فيها الكثير من الواقع. ثمة بُعدٌ تأويلي لدى حسن خضر، وإشارة إلى مغزى نجومية أو زعامة الشاعر في النسيج الاجتماعي. هذه “الزعامة” يُستلّ منها الكثير من المواضيع التي تغوى الجمهور، لكن هذا لا ينفي أن في حياة محمود درويش امرأة يهودية اسمها المجازي “ريتا” واسمها الواقعي تماري. ففي العام 1995 اعترف للمرة الأولى أنه أحبَّ في شبابه فتاة يهودية، من أب بولندي وأمّ روسية، من دون أن يكشف عن شخصيتها الحقيقية. وبعد ذلك بعامين، ألحَّت عليه الصحافية الفرنسية لور إدلر في مقابلة تلفزيونية كي تعرف حقيقة “ريتا” التي كتب عنها “ريتا والبندقية” و”شتاء ريتا الطويل”، فأجاب: “لا أعرف امرأة بهذا الاسم، فهو اسم فني، لكنه ليس خالياً من ملامح إنسانية محددة. وإذا كان يريحك أن اعترف أن هذه المرأة موجودة”.

تقول المخرجة ابتسام مراعنة إنها سعت في فيلمها الوثائقي “سجِّل أنا عربي” إلى التعرف إلى شخصية “ريتا” الشاعر محمود درويش الحقيقية، إلى أن التقت بها في برلين حيث تعيش الآن، واسمها الحقيقي هو تماري بن عامي، كانت تعمل راقصة، التقى بها درويش للمرة الأولى وهي في السادسة عشرة من عمرها بعد انتهائها من أداء رقصتها خلال حفلة للحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان درويش أحد أعضائه قبل استقالته منه. كانت العلاقة قائمة بين الشاعر والراقصة، بين العربي واليهودية، “لكن حرب 1967 غيَّرت الأمور. دخلت الحرب بين الجسدين بالمعنى المجازي، وأيقظت حساسية بين الطرفين لم تكن واعية سابقاً”. بحسب ما ذكر درويش في مقابلة مع الشاعر عباس بيضون، “حرب 1967 خلفت قطيعة عاطفية في علاقات الشبان العرب والفتيات اليهوديات”. وفي المقابل، يزعم الفيلم أن تماري هي من تركت درويش بعدما التحقت بالخدمة في سلاح البحرية الإسرائيلي رغم توسله إليها البقاء. الحرب إذن فككت العلاقة المجازية، دمرت لغة القلب لصالح لغة القتل وعلت الجدران بين الشعبين (الفلسطيني والإسرائيلي) كما بين القلبين (الشاعر والراقصة).

رنا قباني

في قصة درويش وريتا اليهودية “غموض واضح”، والضجيج ليس بسبب العلاقة بذاتها، بل على هوية العاشقين في خضم الصراع العربي الإسرائيلي. وفي قصة درويش ورنا قباني هناك “وضوح غامض” يتجلى في شكلانية الزواج وسرعته. تروي رنا مذكراتها أو ذكرياتها، كجزء من الكتابة في محيطها العربي وبطريقة أقرب إلى سيناريو فيلم وثائقي أيضاً، وربما يكون جوهر المذكرات وأساسها وروحيتها، زواجها من الشاعر محمود درويش… هذا الزواج الذي يحمل الكثير من الأسرار، تروي بعض تفاصيله بطريقة سلسلة لكن خالية من الدراما والسيكولوجيا والنميمة والنفس الوجودي. لا نستطيع أن نحكم على مذكرات قباني الآن، بانتظار أن تصدر في كتاب، وهي حتى الآن اختارت أن تبوح بالأمور الإيجابية واللطيفة والجذابة، مكتفية بذلك، بعيداً من لغة الشحن وتصفية الحسابات مع الماضي. واللافت في زواجها من محمود درويش طريقة الانجذاب وطريقة التعارف وطريقة الزواج التي تمت من دون مقدمات.

تقول رنا إنها حضرت أمسية شعرية لدرويش في أميركا، و”في اللحظة التي جلست أثناءها، كانت عينا محمود تحدقان بالأسود الطاغي المتنافر مع بياض جلدي. كان ينظر بفضول واستغراب، وحين رفع عينيه، وجد أنني أمسكته متلبساً بالنظر إلى ساقي، فضحكت. حينها، بدأ هو الآخر بالضحك اللاإرادي، ثم التثاؤب من دون توقف”. ولا يكتفي الأمر على البصبصة المرحة والمحببة، فبعد انتهاء الأمسية، والتقاء الشاعر برنا التي كانت طالبة جامعية، وبعد كلمات قليلة، قال لها: “اسمحي لي بسؤالك على انفراد للحظة”. ابتعدنا عن الجمع لمدة خمس دقائق، فقال مباشرة: “هل تقبلين الزواج مني؟”. تقول رنا: “أجبت بنعم، أقبل الزواج منك”… وحصل ذلك على وجه السرعة، بعد السفر إلى باريس والحديث عن الفنادق والمطاعم والوضع الفلسطيني العربي، تحط الطائرة في بيروت في خضم الحرب، يعود العريسان إلى بلد وفي قلبيهما شوق العودة، وهنا تروى رنا فظائع زمن الحرب الأهلية اللبنانية: “وصلنا إلى مبنى دبوس، وأبلغني محمود حينها أنه يسكن في الطابق الثامن، وأن الكهرباء مقطوعة منذ أكثر من سنة. فحملت إحدى الحقائب الثقيلة، وبدأت الصعود إلى حياتي الجديدة، ليبلغني، على عتبة الطابق الرابع وهو يلهث، أن الماء مقطوع من وقتها أيضاً، والتدفئة غير موجودة”. ويدخل الشاعر وزوجته إلى “شقة شاعري التي كانت تخلو من أي شاعرية”، بحسب وصف رنا، وتضيف: “وفي الأيام التي تلت وصولنا إلى لبنان مدمر، لم يخرج بعد من حربه الأهلية، ازدحمت شقتنا الصغيرة بعدد هائل من الزوار، قادهم فضولهم ليأتوا للمباركة لمحمود بزواجه المفاجئ. لم يفهموا كيف ولماذا “كتب كتابه” على فتاة شامية تصغره بست عشرة سنة، أعادها معه من رحلة قصيرة إلى واشنطن”…

أبلغ ما كتبته رنا قباني هو بعض التفاصيل في سلوكية محمود درويش، بدءاً من الهدايا التي كان يقدمها، مروراً بأشياء منزله المتواضعة. ربما تقول أموراً جديدة في أجزاء جديدة من سيرتها أو مذكراتها. المهم أن الشاعر والطالبة تزوجا لثلاثة أعوام أو أربعة، غير أنها تركته لتحصل على شهادة الدكتوراه في جامعة كمبردج وكان مستحيلاً الاستمرار. تزوج درويش لاحقاً لنحو عام، منتصف ثمانينات القرن العشرين بالمترجمة المصرية، حياة الهيني، ولا تفاصيل عن هذا الزواج. تقول حياة الهيني عن انفصالهما: “التقينا محبين وافترقنا محبين”. ويقول درويش: “لم نُصب بأية جراح، انفصلنا بسلام، لم أتزوج مرة ثالثة ولن أتزوج، إنني مدمن على الوحدة. لم أشأ أبداً أن يكون لي أولاد، وقد أكون خائفاً من المسؤولية، ما أحتاجه استقرار أكثر، أغيّر رأيي، أمكنتي، أساليب كتابتي، الشعر محور حياتي، ما يساعد شعري أفعله وما يضره أتجنبه”.

يعترف درويش بفشله في الحب كثيراً، “أحب أن أقع في الحب، السمكة علامة برجي (الحوت)، عواطفي متقلّبة، حين ينتهي الحب، أدرك أنه لم يكن حباً، الحب لا بد من أن يعاش، لا أن يُتذكر”. هناك الكثير من العلاقات في حياة درويش تبقى في دائرة السرية ولا ترقى إلى أن تكون تجارب ثقافية.

العقل التقليدي ما زال أقوى في العالم العربي.

حتى محمود درويش نفسه كان تقليدياً في علاقته بزوجته، بحسب ما ينقل مقربون منه.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى