صفحات الرأيعمر كوش

نصر حامد أبو زيد مجدداً ومؤّلاً


                                            عمر كوش

قضايا كثيرة شغلت تفكير الراحل نصر حامد أبو زيد خلال مشواره الفكري والبحثي، تتصل بالتجديد والتراث والتأويل وسواها. وكان الهاجس الرئيس لديه يتمحور حول كيفية استنهاض الإنسان العربي، من خلال وضعه ضمن رهان الوعي المعاصر، بمختلف إشكاليات وقضايا الإنسان والحرية، والنظر إليه بوصفه كائناً فاهماً، ينفهم ضمن حدود تصرفه مع النصوص، ولا تتحقق إنسانيته إلا في إطار وعي عام بمسألة الحرية، وأن يكون حراً ضمن شروط وجوده كائناً لغوياً، مع الأخذ في الاعتبار أن الوعي هو مفتاح الفهم، ورأسمال رمزي للإنسان، ومتعلق بما يكونه إنساناً، وبما يشكل فهم الإنسان لعالمه ومحيطه، أو للمجال الثقافي والاجتماعي الذي ينوجد فيه.

ونظر أبو زيد إلى التجديد بوصفه حاجة دائمة، وسيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية، ومن دونه تتجمد الحياة وتفقد رونقها، وتدخل الثقافات في نفق الجمود ثم الاندثار والموت. واعتبر أن كل ما ليس تجديداً في مجال الفكر هو “ترديد” وتكرار لما سبق قوله، وهو ليس من الفكر في شيء ولا يمت إليه بصلة. ولكل تجديد سياقه التاريخي والاجتماعي، والسياسي والفكري؛ حيث لا ينبع التجديد في أي مجال من رغبة شخصية أو هوى ذاتي عند هذا المفكر أو ذاك. وهو ليس تحليقاً في سموات معرفية، أو عرفانية، بل ينبت في أرض الحياة، كما أنه ليس حالة فكرية طارئة، بل يجسد الفكر في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منها، ويتجاوب معها بوسائله الخاصة.

وتركز هاجس أبو زيد البحثي حول إمكانية تقديم بديل حضاري أوسع يتجاوز النسق الماضوي، ويُبنى خطابه ضمن الطرح الحضاري المعاصر، مع العمل على الاتجاه العقلاني التنويري في أفق الإنسان العربي، لذلك عمل طيلة حياته البحثية، على تقييم حصيلة نشاطه الفعال في محاورته للتاريخ، ضمن رؤية شاملة للماضي والحاضر، وتوسل بترسانة من المناهج النقدية، التي استعان بها في إضاءة جوانبه النقدية ومآخذه، واستخدمها في حواره مع التراث العربي الإسلامي. وكانت غايته تجديد الفهم، وبعث التراث، ضمن حلقة تدرس التراث على أنه تجلٍ في اللغة، لذلك، اعتبر أن إعادة النشاط الواعي للتراث، تكمن أساساً في تعليقه وجودياً، ولا يتم ذلك إلا بفصله عن خانة المقدس.

غير أن التجديد يصبح أكثر إلحاحاً عندما تتأزم أوضاع الحياة، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، التي تنعكس بدورها على الفكر وعلى مختلف أوجه الحياة، فيما تعدّ الحاجة إلى التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي من أول مظاهر التغيير المجتمعي، على أن يشمل التجديد مختلف حقول المعرفة ومجالاتها، ويشمل أيضاً التجديد في إطار الفكر الديني. والأمر ينطبق على بلداننا العربية التي تعيش حالة من التأزم، تحولت مع ضعف مقاومة المجتمع إلى نوع من الركود واجترار إنجازات الماضي والتغني بانتصاراته. وقد كشفت هزيمة حزيران 1967 عن حالة التأزم المستفحلة، على مستوى الواقع وعلى مستوى الفكر وفي النظام السياسي على وجه الخصوص. وجرى تفسير الهزيمة المدوية في الخطاب الديني بشقيه الرسمي والشعبي تفسيراً دينياً، على أساس أن دولة الكيان الصهيوني هي دولة “اليهود”، وأنها انتصرت بسبب تمسك اليهود بقيم التوراة في حين تخلى المسلمون عن قيمهم الدينية والروحية، وانخرطوا في تقليد الغرب العلماني واستيراد أنظمته السياسية والفكرية. ومع ذلك، فإن سيف التكفير والمنع مازال مسلطاً على كل من يحاول التفكير الجديّ والعلمي في وضع بلداننا المأزوم، حيث تتحالف السلطتان السياسية والدينية في وجه كل من يدعو إلى التحرر من أسر التقليد، وضد كل من يفتح الباب لدخول الهواء الذي يسعى لتحريك الأفكار الراكدة التي حاول مصلحون قبلنا تحريكها وتعرضوا لسيوف التكفير.

واعتبر أبو زيد أن الفكر العربي، في مرحلتنا الراهنة، مايزال يرى في كتابات وأطروحات، طه حسين ومحمد عبده وعلي عبد الرزاق والطاهر عاشور وأمين الخولي ونجيب محفوظ والكواكبي وغيرهم، الأساس الإبداعي والمعرفي لثقافة تطمح لأخذ مكانها بين ثقافات العالم. لكن هذه الأسماء الكبيرة تعرضت لشتى أنواع الاتهامات والضغوط، وأجبرت في أحيان كثيرة على التراجع أمام هيمنة الأفكار التي تنتمي إلى الماضي. وعليه يمكننا أن ندرك ثقل المهمة الطامحة إلى إخراج مجتمعاتنا من أزماتها، وهي مهمة تحتاج إلى التحلي بقوة المعرفة وتحتاج إلى الشجاعة أيضاً. مع العلم بأن رفض الحوار العلمي في بلداننا العربية، وتكريس منطق النقل على حساب منطق العقل، لا يزال مهيمناً ومدعوماً من طرف سلطات سياسية، ترى في المؤسسة الدينية خير حليف لخنق حركات التجديد والإصلاح. ولسنا بحاجة إلى كثير من الجهد لإثبات أن أي تجديد في أي من هاتين السلطتين لا يمكن أن يحصل في جهة بمعزل عن الأخرى، وأن الإصلاح والتجديد الديني مرتبطان بالتغيير والتجديد السياسي.

تأويل القرآن

وبخصوص تأويل القرآن قديما وحديثاً، أشار أبو زيد إلى تفضيل العلماء المسلمين، منذ القرن الرابع للهجرة، لمصطلح التفسير على مصطلح التأويل، حتى بات شائعاً أن التأويل جنوح عن المقاصد والدلالات الموضوعية للقرآن، ودخول في إثبات عقائد وأفكار من خلال تحريف عمدي لدلالات ومعاني المفردات والتراكيب القرآنية. وقد اكتسب مصطلح “التأويل” دلالته غير الحسنة تدريجياً، وذلك من خلال عمليات التطور والنمو الاجتماعيين، وما صاحبهما عادة من صراع فكري وسياسي.

واقترح أبو زيد مقاربة جديدة للتعامل مع القرآن، ينتقل فيها من تناول القرآن بوصفه “نصاً”، حسبما جسده في كتابه “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن”، إلى تناوله بوصفه “خطاباً”، وذلك في سياق البحث عن تأويلية إنسانوية، حيث رأى أن التعامل مع القرآن في الحياة اليومية بوصفه نصاً يقلل من حيويته، إلى جانب أن التصور النصي يتجاهل حقيقة أن القرآن ما زال يمارس وظيفته في الحياة اليومية للمسلمين بوصفه خطاباً لا مجرد نص. ولفت النظر إلى أن الدراسات الغربية عن القرآن، بدأت من التسليم بطبيعته النصية، شأنه في ذلك شأن العهدين، القديم والحديث.

وقد دأب المفكرون المسلمون على التعامل مع القرآن بوصفه نصاً، ولم يدركوا أهمية القرآن بوصفه خطاباً، ثم سار الدارسون في العصر الحديث في درب مواصلة المنظور التراثي في التعامل مع القرآن بوصفه نصاً، الأمر الذي أنتج على الدوام تأويلية “كليانية”، و”سلطوية”، تزعم إمكانية الوصول إلى الحقيقة المطلقة. وأكد أبو زيد أن أي مقاربة جديدة للقرآن لا تضع في حسبانها إعادة الاعتبار لطبيعته الأصلية الحية بوصفه خطاباً، لن تستطيع أن تنتج تأويلية حية ومنفتحة. وحدد الخصائص الخطابية للقرآن في تعدد الأصوات بين من يتكلم ومن ينصت ويستمع، وفي الحوار والسجال مع المشركين ومع المؤمنين، وفي الحوار التفاوضي مع النصارى واليهود، ثم الانتقال مع الحوار إلى الجدل معهم.

وعند مقاربته ابن عربي سعى أبو زيد إلى تحويل ابن عربي إلى شخصية مفهومية، تحيل إلى نموذج فكري واجتماعي معين، وذلك في سياق توظيف ما يقوله لنا ابن عربي في القرن الواحد والعشرين حول الأديان والحضارات. ويخفي استدعاء ابن عربي اليوم، بالنسبة إلى أبي زيد حنيناً، ظلّ يعاود أبو زيد كلما دار الحديث أو الاهتمام بأعلام “الروحانية” في الشرق والغرب، إضافة إلى اهتمامه بما قدمه ابن عربي في تأويل القرآن، وما قدمه هذا الشيخ الجليل من أشعار ضربت عميقاً في تفحّص أحوال الدين والدنيا.

النمطية

ورفض نصر حامد أبو زيد الصور النمطية المنتجة في الغرب حديثاً، والمصدرة إلى العالم الإسلامي، لأن صورة ابن عربي تغيب فيها، وتختفي معها صور الفلاسفة والمتكلمون والأدباء، ولا تبقى غير صورة الرجل الإرهابي، حامل البندقية والسكين جنباً إلى جنب مع صورة المرأة الملثمة، التي لا يظهر من ردائها إلا ثقبان لعينيها. بالمقابل فإن بعض الاتجاهات والأفكار والرؤى السلفية سيطرت على مجمل الخطاب الإسلامي في السنوات الثلاثين الأخيرة من القرن العشرين، وقد أنتجت هذا النمط من الخطاب المهيمن ظروف وملابسات اجتماعية وسياسية وثقافية معقدة، ونجحت الآلة الإعلامية الغربية إلى حدّ كبير في خلق صورة عن الإسلام والمسلمين تعتمد على مفردات وسلوكيات وتعبيرات طارئة من شأنها أن تجعل الإسلام عدوا للحضارة والتقدم والحرية. لكن العقلاء في العالم الغربي والعالم الإسلامي تصدوا لهذه الصور النمطية، وعملوا على ترسيخ وإحلال قيم الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل محل الصراع والصدام والحروب. وفي سياق المساهمة في تأكيد قيم الحوار والتفاهم والاحترام المتبادل يمثل فكر ابن عربي رصيداً ثرياً، وبالتالي فإن استدعاء ابن عربي، مع غيره من أعلام الروحانية في كلّ الثقافات، يشكل مطلباً ملحاً في أيامنا، علّنا نجد في تجاربهم ما يمكن أن يمثل مصدراً للإلهام في ظلّ دين الكوننة الجديد، حيث تشكل التجربة الروحية الإطار الجامع للدين والفن في السياق العام، بينما في السياق الإسلامي، فإن استعادته من أفق التهميش إلى فضاء المتن مرة أخرى، لا يقلّ أهمية للتصدي للاتجاهات السلفية والمتطرفة.

لا شك في أن جهود نصر حامد أبو زيد تفرقت في التوليف بين التأصيل وإعادة بناء الأصل في شكل جديد، وفق مناهج البحث والعلوم الجديدة، وتوجب عليه القيام السعي إلى إحياء التراث في أرقى صوره، إلى جانب فض النزاع، الذي نشب تاريخياً بين الأنا والآخر. وعليه، سعى إلى تحقيق مبدأ التكامل المعرفي في دراسة التراث الإسلامي، وذلك بربط الدراسات القرآنية بمجال تداولي أوسع، يضمن لها الوعي الكلي، ويفتح بعض المغلق فيها.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى