صفحات الرأي

نصف قرن على مؤلفه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»: أسئلة عبد الله العروي ما تزال صالحة لاختبار المستقبل/ حسن إغلان

 

 

يشكل الإنتاج الفكري للمفكر المغربي عبد الله العروي حدثا ثقافيا في المغرب والعالم العربي. ذلك أن إصداراته موسومة دائما بالجدة والمصداقية، والأسئلة التي ما فتئت تنشط مجالاتنا الثقافية المتعددة. وجاء الاحتفاء بالعروي من قِبل كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الدار البيضاء، من خلال إعادة تقييم وقراءة مؤلفه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة»، الذي أصدره قبل نصف قرن بالفرنسية، في لحظة فارقة في وعي العالم العربي، عام 1967، لتبدو المسافة الزمنية دالة في ذاتها، ما بين هزائم متعددة وتحولات عالمية كبرى، ما يستوجب أكثر من وقفة وتدقيق النظر في المفاعيل والآثار التي تركها هذا الكتاب الاستثنائي.

الكتاب.. المؤلف والقارئ

لم يستطع العروي الحضور إلى المدرج الذي يحمل اسمه، وأرسل رسالة صوتية تعد بمثابة وصية للمثقفين والباحثين، وماذا عن علاقته بمؤلفه الأول، كذلك موقفه من القراءات التي قرئ بها في ترجمته إلى العربية، حيث كانت هذه الأخيرة في معظمها مغرضة، ولأن الكتاب لم يتم تداوله بالشكل اللائق في الثقافة العربية. أعيد طبعه ونشره بترجمة صاحبه سنة 1995. فقد عبر عن ذلك ببراعة فائقة «أكبر جائزة يمكن لمؤلف كتاب أن يحظى بها هي أن يفرغ الكتاب من محتواه ليصبح مادة للبحث». فهل يعني هذا أن أطروحة الكتاب لم يفكَر فيها بشكل سليم؟ وهل يعني أن النخب العربية لم تتجرأ على تفعيل أسئلته في الواقع؟ كيفما كان الحال وكيفما كانت الظروف التي مسحت نصف قرن من الزمن، يظل هذا الكتاب أطروحة فرضت طرقا متعددة من التأويل والاجتهاد في الفهم. وقد لا نبالغ إذا قلنا إن كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» سيظل مفتوحا على المقبل من الزمن. وجاء بداية سؤال عميد الكلية عبد القادر كناكي .. لماذا صدر هذا الكتاب في ذلك الوقت بالذات وليس في وقت آخر؟ فاتحا بذلك أفقا للمساءلة والتأويل، ليس في هذا الكتاب ومشروع عبد الله العروي فقط، بل كذلك في مساءلة الدولة والمجتمع وما بينهما. لتأتي الأوراق البحثية للمشاركين، بمثابة إجابات متباينة تدلل أكثر على مدى حضور فكر العروي الحي.

المقدس في فكر عبد الله العروي

تتأسس قراءة محمد سبيلا لفكر العروي على رؤية نقدية وفلسفية، تربط أسئلتها بالراهن العربي، وبهذه الرؤية، ناقش سبيلا موضوع المقدس في كتاب «السنة والإصلاح»، ليفكك مفهوم المقدس في كتابات المحتفى به. ومن جهة أخرى يجد في كتاب «السنة والإصلاح» مرآة نقدية لكتابه الأول «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» لاسيما إذا ما اعتبرنا الأساس النظري النقدي فيهما يتمحور حول تحليل نقدي لأيديولوجيا الشيخ. فالكتاب الذي وضعه محمد سبيلا موضوعا لقراءته، ذو كثافة معرفية فارقة، يتناول العروي مفهوم المقدس بعقل تحليلي بارد، بعيد عن الانفعال، ولهذا وضع الفكر السني على محك التاريخانية، ولأن هذه الأخيرة آلة فكرية تضع الأفعال تحت شرطها التاريخي، وتخضعها للتساؤل والنقد بغض النظر عن قدسيتها وطهريتها، فإن هذا يعني أن منطق التاريخانية هو منطق حي، أي منطق الضرورة والحتمية؛ وبهذا المعنى تكون السنة مرآة ضرورية للنص القرآني، فضرورة استعمال السنة لفهم القرآن دليل على أن النبي وحده المؤهل لتفسير الكتاب المقدس، وكذلك الصحابة من بعده. إن هذا التفسير تمثيل لبنية ذهنية قاتمة، التي تم بمقتضاها تجدد الحنبلية، مقابل انكماش الموقف الاعتزالي. والنتيجة هيمنة ثقافة السمع والطاعة، البساطة والأمية وسيادة ثقافة اللسان عوض ثقافة اليد.

تحت هذا العنوان جاءت ورقة الباحث كمال عبد اللطيف، الذي يتوقف أمام ترجمتي الكتاب، الأولى سنة 1970 والثانية سنة 1995، وبترجمة المؤلف نفسه. فيرى إن محتويات هذا الكتاب ما زالت تخاطبنا، بل أكثر من ذلك ما زال حضورها في الكتب التي تلتها، ولعل هذا الحضور الخطابي له مفعولات متعددة في زمننا الراهن، ويعتبر أن العروي حين تأليفه لهذا الكتاب كان يستحضر كتاب الأيديولوجيا الألمانية لماركس ويظهر ذلك من خلال تركيزه على مفهوم الماركسية الموضوعية. ويخلص إلى كون العروي انخرط مبكرا في درب الإصلاح، الذي تم تدشينه منذ انبجاس المشروع الناصري. كما أن مشروعه يروم ترسيخ قيم الحداثة ويدعو إلى المصالحة مع الذات.

السياق السياسي المغربي

وتناول الباحث محمد نور الدين آفاية مسألة قلما نظر فيها، وهي الأثر الذي خلفه كتاب «الأيديولوجيا المعاصرة في الفكر العربي المعاصر». وبالضبط في المجالات الرئيسة التي تفيد تلقيها، وهي المجال السياسي، والمجال المعرفي، وعلى السيرورة التاريخية، أو بسؤاله: هل هذا الكتاب له وقع على السياق السياسي المغربي؟ ثم كيف تلقى عبد الله العروي القراءات حول كتابه الأول؟ ليجيب بأن كتاب «فلسفة وتاريخ» وهو عبارة عن سيرة فكرية تتضمن عمق فكره، الذي يقول فيه إن كتابه الأول عرف سوء تلق. من هنا يكون الأثر موضوعا مركزيا في الكشف عن هذا الغموض وسوء الفهم، ذلك أن العروي مهجوس بإصلاح حال بلده المغرب، ومهجوس كذلك بالعجز السياسي والثقافي.

موقف الماركسيات العربية

وفي السياق نفسه، ركزت مداخلة علال الأزهر على أثر «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» في التيارات الماركسية العربية. والتي استهلتها بكون هذا الكتاب يشكل استثناء في الثقافة العربية. هذه الأخيرة التي عاشت هزيمة 67، والمضاعفات التي تركتها في الروح والجسد العربيين، إنه كتاب خلخل مجموعة من البداهات العقدية السائدة آنذاك، ولذلك سيزعزع بعض التصورات الماركسية في الفكر والأيديولوجيا العربيين، انطلاقا من مفهومي اللحظة الليبرالية والماركسية الموضوعية، ليصبح نموذجا لاعتراف الشرق بفضل المفكر المغربي عبد الله العروي.

البُعد الاقتصادي

ويكشف الأكاديمي الاقتصادي نور الدين العوفي عن المؤشرات الدالة على الاقتصاد في هذا الكتاب من قبيل المفاهيم التالية: النخبة الاقتصادية، الدولة، العقل الاقتصادي، البنية التحتية، البنية الفوقية. سيشتغل عليها المفكر المغربي في تحديده لبنية الدولة الحديثة في العالم العربي، الذي سينتج فيها تراجعا في مستواها العقلاني وتحولها إلى دولة سلطانية. إذا كان العروي يؤكد على الدولة المدنية ودورها الحاسم. فإن نجاعة السوق تحتاج إلى إطار مؤسسي تؤطره الدولة، ذلك أن هدف الاقتصاد الكلاسيكي هو بناء التوازنات. كما لاحظ الباحث أن مفكرنا يستعمل مفهوم التنظيمات عوض مفهوم المؤسسات لدى الاقتصاديين، وبالجملة تساءل: من يهندس ويبلور استراتيجيات الدولة؟ ليستنتج مجموعة من العناصر الفاعلة في الدولة العربية الحديثة من قبيل مخلفات الاستعمار وهيمنة النخب التقليدية. وهذا ما يعطي تعارضا بين النموذج التقليدي والنموذج الحديث ويجعله يتعارض مع بنية الدولة.

نخبتنا العاجزة عن مساءلة الإسلام؟

ويلفت الباحث عز الدين العلام إلى أن صعوبات تلقي كتاب العروي، التي لا تتعلق بسياق زمن القراءة، وما تتضمنه من تحولات تاريخية ومحلية وسياسية، إنما تكمن في طابعه التركيبي وتشابك الحقول المعرفية. هكذا يمحور مداخلته في نظرية الدولة، مفسرا إياها انطلاقا من المنجز العلمي والتعليم الحديث، ليستخلص بعد ذلك أن عبارة الدولة الإسلامية لا يستقيم مع المفهوم الحديث، إنها تشير إلى الخلافة، وبذلك تكون عبارة دولة سلطانية هي الأقرب إلى الواقع، إذا كان الأمر كذلك فإنه يعتبر أن التراث السياسي الإسلامي أكبر عائق في بناء الدولة العربية الحديثة.

التلقي الأنجلوساكسوني

وتتركز مداخلة الباحث محمد الشيخ على التلقي الأنكلوساكسوني لهذا الكتاب، حتى إنه لم يترجم إلى اللغة الإنكليزية. صحيح أنه ترجم إلى اللغة الإيطالية وحظي بنقاش مثمر في الثقافة الاشتراكية الإيطالية. أما اللغة الإنكليزية فقد تم التعامل معه من خلال بعدين رئيسين، أحدهما استجده والآخر استشكله. مستشهدا في الأمر الأول بايكلمان الذي اعتمد على العروي في كتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» من خلال مفهوم المثقف التقليدي، وخصه بقيمة فائقة. والثاني بليونار بيندر الذي يذكر مزايا العروي ويرى أن انتماءه الماركسي يكتنفه الغموض لكنه مفكر قادر على الإقناع الجدلي العميق. والثالث جوزيف مسعد يعتبر أن فكر العروي له راهنيته، على الرغم من أن كتابه ينتمي إلى الكلاسيكيات الفكرية. يمكن اعتبار مداخلة محمد الشيخ نبشا حقيقيا في ما يكون مستعصيا على الكثير من قراء عبد الله العروي. ليس لأن التلقي سؤال جديد في ثقافتنا العربية بقدر ما يشكل هذا النبش إضاءة مهمة للباحثين المغاربة، من أجل التنقيب والحفر في الثقافات الأخرى عند تلقيهم للمفكرين المعاصرين.

الأثر ومداه

وتأتي مداخلة محمد مزوز كاشفة عن مدى تأثير كتاب العروي في قرائه ومتلقيه، ذلك اعتبارا لحساسية المرحلة السياسية التي صدر فيها، ولنبرته النقدية التي حملها، وقد اختلف النقاد في تقييمه، حيث تراوحت مواقفهم بين المدح والذم، والقبول والرفض، إضافة إلى أهمية المقاربة التي اعتمدها العروي في قراءة الفكرين العربي والغربي، وإلى أي مدى يمكن استثمارها والاستفادة منهما في تحديث العقل العربي وتحقيق حلم الحداثة. ثم تساءل الباحث عن راهنية مشروع العروي في الإجابة عن الإشكالات والأسئلة التي يطرحها واقعنا العربي حاليا.

الفكر الفلسفي المغربي

ويرصد الباحث نبيل فازيو مدى تأثير كتاب العروي في الفكر الفلسفي المغربي، من خلال مفعولاته على المنجز الفلسفي المغربي المعاصر. وكأن كتاب العروي دشن مسارات السؤال الفلسفي في المغرب، وهو يدل على الأهمية الاستثنائية لهذا الكتاب، والأسئلة المعلقة بين دفتيه، التي تبحث عمن يعيد إنتاجها في الحقل الفلسفي. هكذا يظهر تأثير العروي في الإنتاج الفكري لمحمد سبيلا، وكمال عبد اللطيف، ومحمد نور الدين أفاية، وعبد الإله بلقزيز وغيرهم. ويظهر ذلك في مفهوم التأخر التاريخي الذي روج له عبد الله العروي كمفهوم مشتغل عليه من طرف المفكرين والباحثين في الفلسفة، الذين تم ذكرهم. فكتاب «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» شكّل مرجعا رئيسا للمنشغلين بالحداثة والمفكرين فيها، وإذا اعتبرنا الأمر كذلك فيمكن اعتبار الإنتاج الفكري لطه عبد الرحمن أنه جاء ضدا من المشروع العقلاني والحداثي للعروي. ويستخلص الباحث أن (كون) المفكر عبد الله العروي ما زال مفتوحا أمامنا. أي أننا لم نستطع تجاوزه ربما لأنه علمنا ربط المفهوم بالواقع، وعلم جيلا من أساتذة الفلسفة في بلادنا أهمية الوعي التاريخي، وأهمية قراءة النصوص الفلسفية في السياق الذي أنتجها.

عميد الفكر العربي

وفي الأخير جاءت مداخلة منسق الندوة عبد الإله بلقزيز لتتمحور حول أهمية هذا المفكر الاستثنائي في ثقافتنا العربية المعاصرة، فهو الذي سماه قبل 26 سنة (عميد الفكر العربي)، انطلاقا من إحالة مدرسية على أمير الشعر العربي أحمد شوقي، وعميد الأدب العربي طه حسين. موضحا أثر عبد الله العروي على المفكرين العرب.. هشام جعيط، إدوارد سعيد، عزيز العظمة، جلال العظم وياسين الحافظ وغيرهم، فكتاب عبد الله العروي يحمل بداية مشروع كبير وفي المحصلة، فالكتاب الأول لعبد الله العروي من الكتب التي لا تنتهي صلاحيتها. إنه من المراجع الكبرى أسوة بكتاب «السياسة» لأرسطو، وكتاب «رأس المال» لماركس.

٭ كاتب وباحث من المغرب

القدس العربي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى