صفحات الرأي

نصيبنا من الحداثة/ ثائر ديب

 

 

إذا كان الفتح الاستعماري العنيف، وليس التطوّر الطبيعي، هو الذي نقل بلداننا إلى الرأسمالية والحداثة، فلنا أن نعتقد أنّ ما نجم عن ذلك هو بنية لم تبقَ كما كانت عليه في الماضي، من جهة، ولم يُتِحْ لها الاستعمار أن تغدو مماثلةً لبلدانه، من جهة أخرى. أمّا آلية ذلك فكانت الجمع، في هذه البنية ذاتها، بين القديم والحديث، بين ماضٍ سابقٍ على الرأسمالية وحاضرٍ رأسمالي. لكنَّ ما نتج عن ذلك هو، في جميع الأحوال، بنيةٌ واحدة مهما بدت في الظاهر غير متماسكة أو فصاميّة. ذلك أنَّ إعادة إنتاج «القديم» في البنية الجديدة لا تجري إلا من خلال علاقة السيطرة التي يمارسها عليه «الحديث»، الأمر الذي يُعيد إنتاج «القديم» لا باعتباره شيئاً «موروثاً»، بل باعتباره جزءاً عضوياً من البنية الراهنة.

تترتّب على هذه الرؤية نتائج فكرية خطيرة – نتوقف عند ثلاث منها – تحطّم أصناماً لطالما هيمنت على الفكر العربي المعاصر الذي اشتهر بثنائياته الكثيرة المشتقة من ثنائية القديم/ الحديث.

أولى هذه النتائج هي أنَّ كلّ نظر إلى بنية مجتمعاتنا هو نظر ناقص ومعطوب إن لم يكن نظراً خلّاقاً إليها من زاويتين معاً: زاوية توجد في مكان انطلاق الاستعمار الذي هو في جوهره عملية توسّع رأسمالي؛ وزاوية توجد في محطّ هذا الاستعمار، حيث يرسمل هذا الأخير المجتمعات المفتوحة على نحو مختلف عمّا جرى في بلدانه. وهذا كفيل، بالطبع، بأن يُطيح تماماً لا بفكر الخصوصية الذي نجده لدى التيارات السلفية وكثير من التيارات القومية فحسب، بل أيضاً بفكر العالميّة الليبرالية السطحي الذي يرى أننا سائرون على خطى أوروبا والغرب مع شيء من التأخّر الزمني ليس غير.

ثانية هذه النتائج هي أنّ كلّ محاولة لفهم مجتمعاتنا أو أيّ بنية من بنياتها (سواء كانت الدولة أم الاقتصاد أم الطائفة أم القبيلة أم سواها) بوصفها أشياء «قديمة» و «موروثة» لا تنفع في فهمها سوى مفاهيم التراث (الخلدوني مثلاً) وأدواته، ليست سوى خطل لا يقوى على الفهم والتحليل ويكتفي بنشر التعمية والجهل. ذلك أننا أمام مجتمعات حديثة تماماً، لم يعُد فيها «القديم» كما كان، بل بات على النحو الذي يقرّره له «الحديث»، مهما اختلف نصيبنا من الحداثة عن نصيب البلدان التي استعمرتنا.

ثالثة النتائج هي تبدّد الوهم الذي ينشره أدعياء الحداثة من أنَّ وجود «التراث» في الحاضر هو سبب التخلّف، ذلك أنَّ وجود «التراث» في الحاضر هو وليد التخلف ونتيجته. وما لم يتضح مضمون الدعوة إلى الحداثة ومعناها الدقيقان، فإنها قد تكون دعوة لأن نبقى في ما نحن فيه مع مزيد من التبعية. وبالمقابل، فإنَّ الدعوة إلى «الأصالة» لم تعد سوى دعوة مستحيلة إلى «فردوس مفقود» مضى وانقضى فلم يعد موجوداً إلا في هذا الحاضر الذي يحدده ويعيد إنتاجه.

نحن، باختصار، أمام نتيجة كبرى تحتوي جميع النتائج، مفادها أنّ فكر الثنائيات بألوانه المختلفة (الأصولية والحداثوية، السلفية والليبرالية) وبثنائياته الشهيرة (التراث/ الحداثة، الدين/ العلمانية، الشرق/ الغرب، الذات/ الآخر، الخ) إنّما هو ضرب من الأيديولوجيا السائدة التي لم تكتف بإشعال مصابيح الوهم لتظهر الأشياء في أضواء زائفة غير واقعية، بل تقاسم أصحابها دفع مجتمعاتنا إلى الدمار والخروج من التاريخ.

بكثيرٍ من المعاني، ليس ثمّة ذلك البون الشاسع بين «داعش» وليبراليينا، ولا بينها وبين أنظمتنا التي هي ليبرالية أيضاً.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى