صفحات الثقافة

نصّان مُهدان لأبي العلاء المعري ولابنته نور

 


حبيب عبدالرب سروري

معرة النعمان تحت وطأة مدرعات السفاح بشار الأسد

لسيّدها الخالد، عظيم الأبدية أبي العلاء المعري، هذا الفصل من رواية “تقرير الهدهد” التي ستظهر قريبا في دار الآداب، بيروت

لابنته الفريدة، نور بنت أبي العلاء المعري، هذا الفصل الآخر

لشعب حمزة الخطيب، شعب سوريا الذي برهن للدنيا أنه شعب عشاق الحرية والكرامة بامتياز، كل الإعجاب والحب

أبو العلاء

أمام أهمِّ وأكبرِ متاحفِ السماءِ السابعةِ والسبعين يقع أشهرُ مقهى!… يُسمِّيهِ أهلُ تلك الديار: «مقهى الكوكبة»!…

السبب: ستّةٌ من أعظمِ مُبدعي وعباقرةِ كوكبِ الأرض يرتادونه كلّ يوم: داروين، اينشتاين، كارل ماركس، فرويد، بيكاسو، وأبو العلاء المعرّي!…

أخيرُهم هذا (الذي عاش قبلهم بأكثر من 800 سنة) وُلِد لسوءِ الحظِّ في أمّةٍ غافلة، لم تُدرِّس كتبَهُ في مدارسِها وجامعاتِها، لم تحتفلْ به، لم تُشيّد تماثيلَهُ في أبواب الجامعات، وفي أعلى الهضاب…

لم تلتفِت لِمشروعهِ لحظةً واحدةً على الأقل!…

ما أحمقها: لو صعدَتْ على كتفيهِ السامقين لَرَأتْ أبعدَ وأفضل… لَشاهدَتْ ما وراء السياج، ما وراء الأفق!…

 

يرتادهُ آخرون أيضا بين الحين والحين، بينهم أرسطو، نيوتن، جاليلو، نيتشه، ماري كوري، هوميروس، كونفيشيوس، شكسبير، ديكارت، طاغور، مفكريّ عصر التنوير الفرنسيين، عمر الخيام، فيكتور هيجو، بيتهوفن، ابن رشد، المهاتما غاندي، فيثاغورس، أراجون، ابن المقفع، افلاطون، رامبو، أنديرا غاندي، سلفادور اليندي، سن تزو، باتريس لوممبا، اقليدس، سلفادور دالي، بوشكين، كافكا، موزار، تشي جيفارا، ابن عربي، أرخميدس الإسكندراني، هيجل، كوبكرنيكس، آلان تورنج، هيراكليت، جودل، باخ، بابلو نيرودا، أروين شرودنجِر، ابن سيناء، ستيفان زفايج، دانتي، كانت، روزا لوكسمبورج… وكثيرٌ من كبار عظماء الأرض الذين يعبرون الزّمن باتجاه الأبديّة!…

 

غير أن داروين (مكتشفَ أصل الأنواع)، اينشتاين (مكتشفَ طبيعة الزّمن وعلاقة المادة بالطاقة)، ماركس (مكتشفَ دور المال في حياة البشر، صاحب الماديّة الديالكتيكية و«مهمة الفلسفة تغيير العالم بدلاً من الاكتفاءِ بتفسيره»)، فرويد (مكتشف خبايا النفس)، بيكاسو (محرّرَ اللوحة من سجن الواقع)، وأبا العلاء (فيلسوفَ الشعراء وشاعر الفلاسفة) هم أكثرُ من يحجُّ في المقهى بانتظام، كلّ عصر! لهم طاولةٌ خاصةٌ محجوزةٌ باسمائهم في بلكونتهِ على الدوام!…

 

«ستّة قتلة»، كما يُسمِّيهم سكان السماء 77: داروين (قاتل الميتافيزيقيا)، اينشتاين (قاتل الزّمن المطلق)، ماركس (قاتل نوم الفلاسفة)، فرويد (الذي أطلق النار على القفل الذي يغلق اللاوعي)، أبو العلاء (مفجّر الديناميت في أرضِ اللاعقل والأكاذيب الكبرى)، بيكاسو (مدمّر سجن الواقع في الفنّ التشكيلي)!…

 

يا لِجلالِ مقهىً كهذا ترتادهُ أرهبُ عقولِ البشريّة من فجر التاريخ، زبدةُ الفكرِ والعِلمِ والفنِّ، يتحدّثون في كلِّ شيء ولا شيء، بتلقائيةٍ وحيويّةٍ وتفاعلٍ جماعي، بلا عُقَد، بلا ترسيمات، لا يلتزمون لأحدٍ أو لشيء بعد أن أداروا أظهُرَهم لِكثيبِ الحياة!…

 

ذات عصرٍ بهيّ، قبل وصولِ أبي العلاء لِيتناول مع بقية شُلّةِ الكوكبة كأساً من أعتق الخمر الشعشعاني ذي الشذى العسجدي، الذي ينسابُ أنهاراً وجداول في كل شوارع وشعاب السماء 77، كان أروين شرودنجِر (الذي عاش عاشقاً محموماً، مهووساً بالحمّالات) يحكي أسرار تفاصيل عطلة كريسميس عام 1925 التي قضّاها في فندق تيرول في النمسا، والتي لم يتوقّف بعض المؤرّخين حتى اليوم عن «الهمز واللمز» حول يوميّاتها!…

 

ما لا يجهلهُ أحدٌ تقريباً: قضّى مجنونُ الحمّالات في الفندقِ أياماً غراميّةً ملتهبةً جدّاً، خرجَ منها لِيكتبَ معادلةَ الموجات الشهيرة (إحدى أهمِّ معادلات الفيزياء وأكثرِها جوهريّةً وتعقيداً) بكلِّ تفاضلاتِها ومؤشراتِها ومتغيّراتِ دالّاتها التي تكشف العلاقةَ بين الطابع الماديّ والموجيّ، في ثنائيتهما المزدوجة، لالكترونات الذرّة!…

 

ما لا يعرفهُ إلا روّاد «مقهى الكوكبة» فقط: تفاصيل يوميات تلك العطلة التي أوحتْ له بتلك المعادلةِ الرهيبةِ العميقة، وكيف امتلأ قبلها جسدُهُ بالموجاتِ الناعمةِ العميقةِ الرهيبةِ أيضاً، التي استطاعت أن تجعلَ رأسَ سنة 1925 عيداً خالداً أبديّاً للفيزياءِ الكونتية والعِلمِ الحديث، والعشقِ المحمومِ في نفس الوقت!…

عيد الموجات!…

 

اختتم شرودنجِر فضفضتَهُ قبل أن يُطلَّ أبو العلاء على المقهى. وصلها الأخير ليُلاحظَ أن الكوكبة ليست أكثر من شُلّةِ مراهقين جرَّتْهم حكاياتُ أروين شرودنجِر لبعض الانزياحات الذكورية الطائشة!…

ما إن وصلَ أبو العلاء، إلا ورأى على تلفونه اسم امينيائيل!…

 

فتح رسالة الإس إم إس التي فاجأتْهُ في الصميم:

((عزيزي أبا العلاء! نحتاجك في مهمَّةٍ عاجلة: السفرُ إلى الدار الفانية، للحياةِ فيها عمراً جديداً، ولِكتابة تقريرٍ عن أوضاعها الراهنة، لاسيما عمّا يدور في بلاد العرب التي لا يفهم أحدٌ هنا كيف وإلى أين تسير!…

سيكون اسمهُ التقني «تقرير الهدهد»…

ما رأيك؟

لك أفضل الشكر والأمنيات بالتوفيق والسعادة!

أمينيائيل))…

 

نظر أبو العلاء إلى تلفونه ليتأكد أن تاريخ اليوم (31 ديسمبر، كانون الأول، 2008) ليس الفاتح من إبريل بتقويم الأرض!… ضحك ساخراً!…

ثم دوَّتْ قهقهتُهُ وهو يستوعبُ أخيراً أنه لم يستلم أقلّ من طلبٍ بالسفر إلى كوكبٍ مات فيه قبل حوالي ألف سنة، يبعد عنه مليارات السنين الضوئية، لبدء حياةٍ جديدةٍ هناك!…

أثارتْ جلجلةُ نوبةِ ضحكهِ رفاقَه وهم في اصطخابِ فرفشتِهم التي ألهبتْها قصصُ شرودنجِر!… حاولوا تهدئة أبي العلاء بكلِّ الوسائل، عبثاً!… أقلقهم طولُ نوبتهِ غير الاعتيادي، وتطوُّرها المتصاعد…

 

لجؤوا للحلِّ القيصري: عضّ فرويد واينشتاين الأذنَ اليسرى واليمنى لأبي العلاء، عطَف ماركس يدَ أبي العلاء اليُمْنى، شدَّ داروين لحيتَهُ، فيما تنحّى بيكاسو لِيرسمَ المنظر بمتعةٍ هائلة!…

هدأ أبو العلاء أخيراً، سوّى شعرَه الطويل ورتّبَ لحيتَهُ المدعوكة، استعادَ هدوءه شيئاً فشيئاً، تمتم: «مداعباتُ أهل السماء تختلف كثيراً عن مداعبات أهل الأرض!»…

 

عندما سأله رفاقه في الكوكبة أن يشرحَ عِلّةَ قهقهته المفاجئة، ويُفسِّرَ عبارتهُ التي تسخرُ من مداعبات السماء 77، قرأ لهم إس إم إس أمينيائيل!…

لم يشاركه سخريّتَهُ من هذه المهمة أحدٌ!… بدا على ملامحهم جميعاً تفهّمٌ شديدٌ لهذا المقترح الربّاني الحكيم، وإعجابٌ صامتٌ أيضاً!…

زاد استغرابُهُ وخيبتُهُ عندما عبّروا له عن نوعٍ من الغِيرة «الايجابية» (على حدّ تعبير فرويد)، لأنهم يحترقون شوقاً لمعرفة أخبار «القرية» كما يُسمُّونَ كوكبَ الأرض الذي يقضّون معظم وقتهم في لوكِ ذكرياتِهِ والتنظيرِ لمستقبلِه في كل المجالات، باستثناء ماركس الذي لا يفكّر إلا بتغييره!…

 

ترتبطُ تلفونات السماء 77 بالدماغ مباشرة عبر «بلوتوث 77»: ثمّة في كل هاتف برنامجٌ يجيد تشفيرَ التيارات الكهروكيميائية في عصبونات الدماغ، وقراءةَ الأفكار والعبارات التي تتكوّن فيها، ثمّ نقلَها كإس إم إسات إلى الهاتف مباشرة!… يكفي أن يصيغ المرءُ في دماغِهِ عبارةً ما، لِيجدها حالاً مكتوبةً في شاشةِ الهاتف!…

بعث أبو العلاء لأمينيائيل، عبر بلوتوث 77: «هل تسخر مني عزيزي أمينيائيل؟»…

 

– لماذا تقول ذلك، حبيبي؟، ردّ أمينيائيل بالإس إم إس حالاً!…

– أنت أكثر من يعرف أني جرجرتُ ثمانين عاماً في «وادي الدموع» أشتاقُ للموت، أنتظر «وصول عزرائيل» بباقةِ وردٍ كبيرة، فتحتُ له ذراعي بِفارغِ اللهفةِ والصبر! حلمتُ منذ طفولتي في الحقيقة أن أغادرَ «الفانيةَ» دون رجعة، بأسرعِ ما يمكن!… كان الخلاص منها حلمي الأوّل!… ثمّ تطلب منّي اليوم، بكلِّ برودةٍ وجَدّ، أن أعود إليها لبدءِ حياةٍ جديدة!…

 

تنفَّس أبو العلاء عميقاً جدّاً، ثم أضاف:

– «ذا كلام؟، عزيزي الغالي أمينيائيل!»…

 

ردّ أمينيائيل سريعاً:

– أعرف ذلك، لكنك لن تعود إليها ضريراً هذه المرّة! ستكون سعيداً برؤيةِ ضوئها الذي طالما افتقدته! ستشعر ببهجةٍ لا حدّ لها وأنت ترى الألوان والحياة والبشر!…

– لا أفهمك عزيزي أمينيائيل!… أنت أكثر من يعرف أني لم أخضع لأحد عندما كنتُ في أرض البوار! دفعتُ حينها ثمن حريّتي: انعزلتُ نصف قرن كي أعيش حرّاً في «سجني الثالث»!… لكني متُّ حرّاً أيضاً: لم أمدح سلطاناً أو أتقرّبَ لِحاكم، لم أنافق، ليس عليّ فيها دَينٌ لأحد!…

واليوم تطلب منّى أن أضع حريّتي في جيبي، أن أنفِّذَ أمراً عسكريّاً أو تكليفاً حزبيّاً: كتابة تقرير استقصاء حقائق، أو شيء من هذا القبيل، عن شعوبٍ عربيّةٍ تغرقُ في وحلِ الجهلِ والظلمات، داخل كرةٍ أرضيةٍ تهرول نحو المجهول!…

عفواً عزيزي قائد جيش الملائكة: ابحثْ لكَ عن فدائيٍّ آخر! لستُ أبا العلاء 007 الذي تحتاجه!…

 

– لعلي لم أشرح نفسي كما ينبغي حبيبي أبا العلاء: لا نودُّ أن تكتب تقريراً حزبيّاً، وليس في الأمر تكليفٌ عسكري!… هذه مهمّةٌ أدبيةٌ بحتةٌ في الأساس! مغامرةٌ أدبية لا غير!…

– أدبيّة؟ أتسخرُ منّي؟… ردَّ أبو العلاء في إس إم إسٍ مارقٍ وصل أمينيائيل في لَمحة بصر!

 

– نعم، هي أشبه بكتابة «رسالة الغفران» التي سردتَ فيها رحلة أبن القارح إلى الجنة والنار وتحاورتَ خلالها عبرهُ مع كوكبةٍ من نجوم الأدب الجاهليّ والإسلامي (والتي حاكاها دانتي بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، واعٍ أو غير واع، عندما كتب «الكوميديا الإلهية» وهو يصفُ رحلتَهُ إلى الجنة والجحيم مع الشاعر اللاتيني فيرجيل، الذي رأى خلالها شخصيّات ميثولوجية وتاريخية شهيرة)! لكنها رحلةٌ عكسيّة هذه المرة، من السماء إلى الأرض!…

ألا يناسبك هذا التميّزُ الجديد؟…

 

– تريد أن تقول: «من دنيا الخلود إلى المقبرة»، من «عوالم الحرية إلى المستنقع»، من «السناءِ الأبديّ إلى “أمِّ دفر”»؟…

لا، ثمّ لا!…

لا يناسبني ذلك، عزيزي أمينيائيل!…

تعرف أني إنسانٌ حرٌّ، يكتب ما يحب! لا تهمني في الكتابة إلا المواضيع التي أعشقها: التأملُ في الدهر، البحثُ عن أصل الحياة، تفكيكُ أكاذيب الأديان، الاحتفالُ بالعقل وحده لا شريك له، اقتراحُ نموذجٍ أخلاقيٍّ راقٍ للإنسان، نَقْشُ عرجنات الطبيعة الإنسانية…

لا تُهِمُّني قبل هذا وذاك إلا الكلمات: أنا صيّادُ كلمات، نحّاتُ كلمات، بائعُ كلمات، مجنونُ قوافٍ وإيقاعاتٍ جديدة!…

كيف تطلب مني مع ذلك تقريراً تجسُّسيّاً عن أوضاع الأرض عامة، وبلاد العرب خاصة؟…

 

– اكتبْ ما تحب، كيفما تحب!… تعرف أن «الأعلى جدّاً» ينبوعُ الحريّة والأنوار!… سنقرؤك بطريقتنا، هذا ليس من اختصاصك!… يكفي أن تبعثَ يوميات حياتِك هناك، أن تسردَ آراءك في كل شيء ولا شيء، كما تخطر ببالك! وعلينا ما تبقّى!… لدينا في السماء السابعة والسبعين دواوينُ ومكاتبُ دراساتٍ وأبحاثٍ وتفسيرٍ متخصِّصةٌ ناجعة!…

إعلم عزيزي أبا العلاء: اقترحتُكَ لأنك مهووسٌ دوماً بالبحث عن الجذر، تتّجِهُ مَطْرَقيّاً نحو العِلّةِ والباطن، نحو سبرِ الأغوار دون مواربة، تستخدمُ بذكاء، في كلّ ما تقول، العقلَ والتساؤلَ والشكَّ والتجريد! لهذا اقترحتُك!… يكفي أن تظلّ في حياتك الجديدة أبا العلاء الحرّ، كما أنت دوماً، أن تحيا وتكتب كيفما تريد!…

 

لم يرُد أبو العلاء مباشرةً، كعادتِه! شعرَ أمينيائيل أن كلماته تفعلُ فعلَها في وجدانِ أبي العلاء. أراد ساعي بريدِ «الأعلى جدّاً» أن «يضرب الحديدَ وهو ساخن»، واصلَ على نفس الإيقاع:

– اعتبرْ عُمرَك الثاني هذا «لَحْقَةً» حرَّةً على هامشِ الحياة: حياتُكَ الأولى كافيةٌ لعبورك الزّمن. قبرُكَ في الأرضِ مفتوحٌ على الأبديّة!… التزمتَ في عُمرِكَ الأوّلِ بما لا يلزم، وربما تقرر أن لا تلتزم في الثاني بما يلزم، أنت الذي تهوى تجريب كل قوافي الشعر وإيقاعاته!…

 

ثمّ ألا تجد، عزيزي أبا العلاء، في هذه المهمة بُعْداً أدبيّاً نادراً تتحققُ فيه رغبتُكَ (بطريقةٍ فنيّةٍ لم تخطرْ ببالك) في أن يسميك الناس: «أبا النزول»، أنت الذي قلتَ:

دُعيتُ «أبا العلاءِ» وذاك مَينٌ        ولكن الصحيحَ «أبو النزول»!

أُفضِّلُكَ شخصيّاً في تواضع هذا البيت وخفّة روحِه على شطحاتِ أبيات ريعانِ شبابك التفخيمية (مثل «وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانهُ/ لآتٍ بما لا تستطيعُ الأوائلُ»، أو ذلك الذي «افترشتَ فيه الجوزاء بساطاً لك»)…

 

قاطعُهُ أبو العلاء (الذي لا يُحبُّ أن يُتَّهمَ بالغرور) باعثاً له هذه العبارة التي قالها نيتشه، على لسانِ زرادشت، بعد تسعِة قرون من أبي العلاء:

«أمّا أنتَ يا زرادشت، فإذا ما كنتَ تريدُ أن ترى علّةَ الأشياءِ وباطنَها، فعليك أن تتسلّق مُرتَقياً فوق نفسك، قُدُماً، صعوداً، إلى أن تغدو نجومك ذاتها تحت منزلتِك!»

 

– آه، عفواً، ربما لم تكن شطحات، كما قلتُ! (كم تجيدون معشر الشعراء إخراج أنفسكم من المآزق!)… لا يهمّ كلّ ذلك الآن!…

إليك الأهم عزيزي أبا العلاء: أمام أبي النزول عمرٌ جديدٌ يستطيع أن يحياه كما يهوى!…

 

حكى أبو العلاء لِشُلَّةِ الكوكبة حوارَهُ مع أمينيائيل. ثمّ تنحّى قليلاً، ومكث يفكّر وحدَهُ بصمت!…

همس فرويد في أذن بيكاسو: «ما أدهى ساعي بريدِ الأعلى جدّاً وهو يستشهدُ بأبيات أبي العلاء أمامه! يحتفلُ بِخلوده، يُدغدِغُ نرجسيّتهُ وينتقدُهُ بودّ! يُغازِلُهُ بلقب “أبي النزول”، بمدلولٍ حَرْفيٍّ جديدٍ فاجأ أبا العلاء!…»

همسَ داروين في أذنِ اينشتاين:

«كم يعرف قائدُ جيش الملائكة ومديرُ مكتبِ الأعلى جدّاً نقاطَ ضعف الطبيعة الإنسانية، وكم يُبرِعُ في فنِّ المفاوضة!…»

 

علّق كارل ماركس في آذان رفاقِهِ الأربعة (لم يصغِ أبو العلاء لأحاديثهم):

«ما أبرعَهُ في فنّ العلاقة الديالكتيكية بين الإستراتيجية والتكتيك!… كم يجيدُ الوصول خطوةً خطوة، إلى تحقيق هدفه بانتهازيّة وذكاء! لا يألو جهداً لذلك في مداعبةِ مُحاورِه، في أن يشتريه بلُعْبَةِ الكلماتِ كما يهوى، في أن يستولي على وجدانه!…»

 

ثمّ دخل أبو العلاء في حوارٍ طويلٍ مع رفاقِ الكوكبة الذين شجّعوه على تنفيذ هذه المهمة الاستثنائية جدّاً، «المثيرة» كما قال اينشتاين، «الممتعة» كما قال بيكاسو، التي «تحتاج إلى استعدادٍ بسيكولوجيٍّ خاص» كما قال الدكتور فرويد بنظراتٍ تُجسِّمُ قلقَها عدساتُ نظّارتهِ الدائريةِ السوداء…

ينتظرون جميعاً نتائجَها بفارغ الصبر، كما قالوا معاً!…

 

طلب كلُّ واحدٍ منهم من أبي العلاء أن يعود له بإجاباتٍ على أسئلةٍ محدّدة، وبأشياءَ خاصةٍ كثيرة!…

«احمل لي عند عودتك من هناك عيّنات من الأنواع البيولوجية الجديدة، وقائمةً من الفراشات التي كُنتُ أهوى جمعَها في فجر شبابي!»، طلبَ داروين…

«احمل لي آخر أبحاث توحيد النظرية النسبية بالميكانيكا الكونتية، وَكُلّ سيدي رومات فيفالدي»، قال اينشتاين!…

طلب فرويد قائمةً طويلةً من الأشياء الصغيرة، لاسيّما أنواعاً من السيجار الذي يحبُّه، وتماثيلَ أركيولوجية قديمة كَتِلكَ التي كان يهوى تجميعها في الأرض!…

أما بابلو بيكاسو فقد طلب منه صوراً كثيرة لبعض مقاهيهِ المفضّلة، الشوارع التي عاش فيها في باريس، القصرَ الذي اختتم به حياتَه أسفل جبل سانت فيكتوار بفرنسا، وصوراً لِبعضِ اللوحات الانطباعية لِسيزان، عن جبل سانت فيكتوار، اقتناها هواةٌ روس في بداية القرن العشرين ولم يرها بيكاسو حتّى اللحظة!…

 

ماركس، الذي يسمّي أبا العلاء: «الرفيق أحمد»، ويعتبر أن أفضل ما قاله هو:

تشابهتِ الخلائقُ والبرايا            وإن مازتْهمُ صورٌ رَكِسنَهْ

و «جَرْمٌ» في الحقيقةِ مثل «جَمْرٍ»       ولكنَ الحروفَ بهِ عُسكنَهْ

غِنى زيدٍ يكونُ لِفقرِ عَمْرٍ            وأحكامُ الحوادثِ لا يُقسْنَهْ

 

وهذا البيت أيضاً (الذي لو كان يعرفهُ في حياتِهِ الأرضيّةِ الأولى لاقترحَهُ شعاراً لمؤتمرِ الأمّميّةِ الأولى):

لو كان لي أو لغيري قيدُ أنملةٍ       فوق التراب لكان الأمرُ مشتركا!

 

قال له: «أبعث لي من هناك أخباراً تفصيليةً عاجلةً عن تطوّرات أوضاعِ الرأسمالية وأزماتها، عن استراتيجيات وبرامج قوى الشغيلة في مطلع الألفية الثالثة، عن تقارير المؤتمرات الأخيرة لكلّ الأحزاب الشيوعيّة والعمالية والتقدميّة في العالم!»…

 

ردّ أبو العلاء عليهم جميعاً: اللعنة! قلتُ لكم قبل قليل: «لن أذهب!… لن أذهب!»…

ثمّ أرسل لأمينيائيل ردَّهُ النهائي:

«ردّي القاطع لمقترحكم، عزيزي أمينيائيل: لا!

لاءٌ مربّعةٌ صريحةٌ لا تقبلُ التفاوض!…

أرجوكم قبولَ عُذري، وعدمَ إزعاجي مجدّداً بمثلِ هذه الدعوة!…»

 

ليس أمينيائيل من النوع الذي ينهزم بسهولة!…

يمتلك دوماً أوراقاً رابحةً خفيّة!…

هند وأبو العلاء في مباراةِ شطرنج

في حنايا إحدى تلميذاتهِ أودعَ الشاعرُ الضريرُ الذي قِيلَ إنه قال:

هذا جناهُ أبي عليَّ     وما جنيتُ على أحد

جنيناً صغيراً في غاية الحسنِ والعذوبة، اسمهُ: نُور، جدّتي الثانيةَ والثلاثين (عطّرَ اللهُ ثراها، وأسكنَها قصراً يُطِلُّ على أسنى حدائقِ جنّاتِه!)…

 

كانت هِنْدُ أذكى وأجملَ تلاميذ «فيلسوفِ الشعراء وشاعرِ الفلاسفة» أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي، المُكنّى بأبي العلاء المعري، وأكثرهم جدلاً وخلافاً معه. أكثرهم عشقاً له بالتأكيد، وأقربهم إلى قلبِ أمِّه!…

قبل توجُّهِها لمجلسهِ الدراسي تبدأُ هِنْدُ دوماً بتقبيلِ يدِ أمِّ أبي العلاء ورُكبتِها، تودِّعُها بقُبلةٍ على جبينها قبل المغادرة. تأتي لزيارتِها بين الحين والحين، لمساعدتِها في الشئون اليومية الصغيرة، لتبادلِ البوحِ معها، ولما تيسّرَ من الشجونِ والثرثرة…

كانت هِنْدُ تجيدُ انتقاءَ اللحظةِ المناسبة، وهي بصحبةِ أمِّ أبي العلاء، لِتتحدّى أستاذَها خوضَ مباراة شطرنج!…

اشتهر الشاعرُ الضرير بأنه «لا ينهزم في الشطرنج من بصير»، و «لا يوجد ضريرٌ في عصر العباسيين يلعبُ الشطرنج عداه»!… يترنَّحُ أمامه الجميعُ بسرعةٍ غير طبيعية، ينكسرون بسهولةٍ مقرفةٍ (تناسبُ مزاجَهُ تماماً)!…

 

تحبُّ هِنْدُ طقوسَ معركتِها مع أبي العلاء على رقعة الشطرنج. تجدُ لذّةً عنيفةً وهي تراهُ يرصُّ قطعَ الشطرنج الافتراضي على طاولة دماغه، يراقب ذهنيّاً حركات وسكنات بيادق وضباط جيشَيْه فرداً فردا!…

تعرف أنه لا يستطيعُ تمثُّلَ هيئةِ قطعِ الشطرنج، مثلما لا يستطيعُ تمثُّلَ كلِّ الأشياءِ والألوان تقريباً: أصابهُ مرضٌ في صباه، وهو في نهاية الثالثة من العمر، وأطاح بنظره. لم يبق في دماغِهِ من ذاكرةِ الأشياء إلا اللونُ الأحمر: لونُ قميصِهِ الزعفرانيّ الذي كان يلبسه أثناء مرضه، قبل أن يغرق في بحر الظلمات!…

 

يستبدلُ كلَّ قطعةِ شطرنج في دماغه بِكَلمة، يستبدلُ كلَّ مربعٍ على رقعة الشطرنج بِكَلمة! المباراةُ قصيدةٌ ديناميكيةٌ مُربّعة، تتحرّكُ كلماتُها على أرضٍ من الكلمات، تتقاتلُ وتتساقطُ في ليل الكلمات!… ربما لذلك يجدُ سهولةً خاصة، تثيرُ إعجابَ معارفه، بِتذكُّرِ «نصِّ» كلِّ نقلاتِ مبارياته مع هِنْدَ أو مع غيرها (بعد أيامٍ من المباراة!) نقلةً نقلة، بيتاً بيتا!…

 

الأشياءُ، كلُّ الأشياءِ، تتماهى في فضاءِ دماغِهِ مع الكلمات. لا توجدُ فيهِ إلا ككلمات. كلماتٌ بعضُها فوق بعض، تتناثرُ، تضيءُ وتتغامزُ كنجوم!…

لا يختلفُ في ليلِ دِماغِهِ «الدُّجى» عن «الصبح»، «الشمسُ» عن «السّها»، «الشهبُ» عن «الحصا»، إلا اختلافَ أحرفهما… ومع ذلك لا يفوتُهُ تضادُّ هذه الثنائيات، هو الذي يقول:

فوا عجباً كم يُدَّعى الفضلُ ناقصٌ         ووا أسفاً كم يظهرِ النقصُ فاضلُ!

وقال السّها للشمسِ: «أنتِ ضئيلةٌ!» وقال الدُّجى للصبحِ: «لونكَ حائل!»

وطاولتِ الأرضُ السماءَ سفاهةً     وجاوزتِ الشهبُ الحصى والجنادلُ

فيا موتُ زُرْ إنّ الحياةَ ذميمةٌ        ويا نفسُ جِدّي إنّ دهرَكِ هازلُ!

فيما انقلبَتْ هذه الثنائيات رأساً على عقِب في أعينِ المُبصِرين الذين شوَّشهم أو أعماهم بريقُ الواقعِ والتماعاته، وغشاهم سرابُه وأضاليلُ فخاخِه!…

 

لا شيء في الوجود يستحوذُ عليهِ مثل الكلمة! وأهمُّ كلمةٍ بالنسبة له كلمةُ: «كلمة»!… تليها كلمة: «كابوس»، التي تعني في قاموسهِ بكلِّ بساطة: «أمّ دفر» (أمّ النتانة)، أي: «الدنيا»، وادي الدموع!…

أمّا أجملُ كلمةٍ في ناظريه فهي قطعاً: «نور»!…

 

*****

تُحدِّقُ هِنْدُ بتأمّلٍ عميق في لِحيتهِ الكثّة الملساء، في قامتهِ النحيفةِ السامقة، في شَعرِهِ الفضّي السلِسِ الطويلِ المنفوش (الذي لم يره، بسبب العمامة، أحدٌ عدا أمَّه وهند، وكاتبَهُ بين الحين والحين)، في جبينهِ المضيء، وفي جمالِ قسماتهِ المفعَمَةِ بِسمُوٍّ وكياسةٍ وفطنةٍ ونُبلٍ يتناسبُ ومقامه!…

 

عيناهُ صامتتان تماماً، يطمسهُما إلى الأبد حزنٌ رماديٌّ لا يتزحزح، وظلالُ مرضٍ غادرٍ سحيق!… يعلمُ الله كم تشتاقُ هِنْدُ دوماً لتقبيلهما!…

تعتقدُ أحياناً أنه يلزمُ أن تُقبِّلَهما دون توقّف، برقّةٍ شديدةٍ، سنةً كاملة، ليعودَ إليهما النظر، كما فعلَ قميصُ يوسف عندما رُمِيَ على عينَي أبيهِ يعقوب «فارتدّ بصيرا»!… (يشاركُها نفس الاعتقادِ وإن تمنّى أن يلتصقَ قميصُ قبلاتها بِعينيهِ زمناً أطولَ بكثير!)…

 

تُحدِّقُ به، تُحدِّقُ حدّ الذوبان! تجيد الإصغاء لِصمتِه. تلتقطُ، تقرأُ، تُفسِّرُ كلَّ نبراته. تشربُ كل عباراته، وتدوِّخُ عند أي مزحةٍ ساخرةٍ لطيفةٍ، أو تعليقٍ رقيقٍ يفوحُ منه…

تعشَقُهُ بالجملةِ والتفاصيل!…

 

يقول لها وهو ينظر باتجاهها كما لو كان يراها:

– فضلاً دعي، لو سمحتِ، الفارسَ الأسود ينتقلُ من موضعهِ في ثالثِ أعمدةِ الخط الرابعِ ليقفَ خلف القلعةِ البيضاء، «خلفَها تماماً»!…

تفلتُ منها أنّةُ ضحكةٍ بريئة، خجولةٍ وصغيرةٍ جدّاً، وهي تسمعه يقول «خلفها تماماً»!…

تتساءل، وهو «ينظر» باتجاهها: كيفَ يراها؟ كيف تروق له؟ أهي أيضا بالنسبة له كلماتٌ لا غير، «قلعةٌ بيضاء» يُسقِطُ قلبَها ألف مرةٍ كلّ يوم، لا يجدُ سعادتَه إلا عندما تختفي في أحضانه. عندما تمسُّ أطرافُ أصابِعِهِ خصرَها الرشيق الذي يُفَجِّرُ كلَّ رغباته. عندما تُقبِّلُ شفتاهُ كلَّ تماوجات عمودِها الفقري، فقرةً فقرة. عندما تهيمُ في كلِّ قامتِها الهيفاء بِبطءٍ ونعومةٍ وتقديس. عندما يشربُ أنفاسَها، عندما يكون أمامها تماماً، فوقها تماماً، تحتها تماماً، داخلها تماماً، خلفها تماماً؟…

 

تعرف هِنْدُ، مثل والدتِه، كم يحبُّ الجمال، وكم لن تطيب له في الحياة إلا أحضان جميلة!… تُدركُ أنه يعرفُ تماماً أنها جميلة جداً!… لكن ماذا تعني كلمة «جميلة» لِضرير؟… ماذا تعني، بحقِّ السماء، هذه الكلمة؟… أيُحِبُّ أن تكون فتاتُهُ شديدةَ الجَمال، فاتنةً جدّاً، لمجرّدِ اشتهاءِ ما يشتهي الآخرون، دون أن يدرك ما تعني تلك الكلمة؟…

 

طالما رسمَتْ له أمُّهُ هِنْدَ بالألوان (تعرفُ حساسيَتهُ لأسماء الألوان، وفرطَ حزنِهِ لِعدم تذكُّرِ لونٍ آخر غير الأحمر):

– هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!…

– صِفي لي، أمّاهُ، لونَ العسل؟، يقاطعها…

 

يُهمُّهُ لونُ العينين والأسنان كثيراً! يفتقدُ رؤيةَ الألوان والنورِ (منبعِ الألوان) أكثر ما يفتقدُ في هذه الحياة!… طعنَتْهُ الحياةُ في الظَّهر عندما حرمتهُ من النور! يشعر أن لا أحد في الوجود يعرفُ مثله قيمة هذه الكلمة: «نور»!…

يشعرُ بنوعٍ من القهر عندما يراها تُلفَظُ بابتذال في أحاديث عابرة. ناهيك عندما يسمعُ «نورٌ على نور» تُردَّدُ بسطحيّة، هو الذي يُدركُ بِعمقٍ ما تعني «ظلماتٌ بعضُها فوق بعض»!…

 

كم سأل أمّهُ في طفولتهِ كثيراً عن أصناف الألوان وتنوّعِها!… إجابتها لا تُفارقُ وجدانَه لحظةً واحدة، يُسمِّيها «سورة الألوان»:

– الألوانُ تكسو الكونَ يا ولدي، تمنحهُ جمالَه! لو كان للكونِ لونٌ واحد لكان قاحلاً حزيناً جدّاً، بِلونِ الموت!…

لِلورودِ والأزهارِ ألوانها. لِفقاعةِ الماء، لِعُنِقِ الببغاء، لِريشِ الطاؤوس، لِلْحيّةِ المُرقَّطة ألوانها!…

لِجناحِ الفراشة، لِلسمَك، لِشُعَبِ المرجان، للقشريّات الملتمعة، لِمساحيق الخضاب، لِلأفق عند الغروب، لِقوسِ قزح ألوانُها الخاصة!…

 

هاهي أمُّهُ، بعد ربعِ قرنٍ تقريباً من «سورة الألوان»، تضيفُ لها آيات جديدةً اسمها هند، تنقشُها بألوان ساحرةٍ متألقة، تحفرُها في مركزِ دماغه وهي تقول:

– هِنْدُ قمريّةُ البشرة، سوداءُ الضفائر، حمراءُ الشفتين، عسليّةُ العينين، ذات أسنانٍ ناصعةِ البياض، منتظمةٍ جدّاً!…

آه، كم تعرفُ أمُّهُ كيف تشعلُ بالألوان أحاسيسَه ورغباته، كيف تشتريه بها!…

 

*****

«هِنْدُ ذات جَمالٍ جهنميّ!»، قالت لأبي العلاء ذات يوم أمُّهُ التي تعرف كم يسخرُ من جَمال حوريات الجنّة، كما سرَّبهُ بذكاءٍ في «رسالة الغفران»، لاسيّما عندما صوَّر، في فصل «شجر الحور»، شهوةَ أحد ساكني الجنة (ابن القارح) وهو يفاوض الباري عزّ وجل، بين سجدتين، على حجم مؤخرةِ الحوريّة!… يتوسّلهُ أوّلاً أن يُكبّرَ دبرَها الضاوي قليلاً عندما رآها هزيلةَ الدّبر. ثمّ يعود لِيدعوهُ من جديد، بعد أن كبر دبرُها أكثر من اللازم، أن يُصغِّرَهُ «سنتمتراً سنتمتراً» حتّى يصِلَ للحجمِ الذي يروق لِمزاجهِ ومُناه!:

((ويمرُّ ملَكٌ من الملائكة فيقول ابن القارح: يا عبد الله! أخبرني عن الحور العين، أليس في الكتاب الكريم: «إنا أنشأناهنّ إنشاءً، فجعلناهنّ أبكاراً، عُرُباً أتراباً، لأصحاب اليمين» فيقول الملَك: هنّ على ضرْبين: ضرْبٌ خلقهُ الله في الجنّة لم يعرف غيرها، وضرْبٌ نقلهُ الله من الدار العاجلة لمّا عمل الأعمال الصالحة.

فيقول، وقد هكِرَ عجباً مما سمع: فأين اللواتي لم يكنّ في الدار الفانية؟ وكيف يتميّزن عن غيرهن؟ فيقول الملَك: اقفُ أثري لترى البديءَ من قدرة الله. فيتبعه، فيجيء به إلى حدائق لا يعرف كنهَها إلا الله، فيقول الملَك: خذ ثمرةً من هذا الثمر فاكسرها فإن هذا الشجر يعرف بشجر الحور!

فيأخذ سفرجلةً أو رمّانةً أو تفاحةً أو ما شاءَ الله من الثمار، فيكسرها، فتخرج منها جاريةٌ حوراء عيناء تبرق لحُسنِها حوريات الجنان، فتقول: من أنت يا عبدالله؟ فيقول: أنا فلان بن فلان. فتقول: إني أُمْنى بلقائك قبل أن يخلق الله الدنيا بأربعة ألف سنة!…

فعند ذلك يسجدُ إعظاماً لله القدير ويقول: هذا كما جاء في الحديث: أعدَدتُ لعبادي المؤمنين ما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمِعتْ!…

ويخطر في نفسه، وهو ساجدٌ، أن تلك الجاريةَ على حسنها ضاويةٌ، فيرفع رأسه من السجود وقد صار من ورائها ردفٌ يضاهي كثبان عالج (رمالٌ على الطريق إلى مكّة) فيهال من قدرة الله اللطيف الخبير، ويقول: يا رازق المشرقة سناها، ومبلغ السائلة مناها، والذي فعل ما أعجز وهال، أسألك أن تقصِّر بوص هذه الحورية على ميلٍ في ميل، فيقال له: أنت مخيّرٌ في تكوين هذا الجارية كما تشاء. فيقتصر ذلك على الإرادة!…))

 

تهمس له أمُّهُ كلَّ مساء:

– حان موعد زواجك يا بني، وقد تجاوزتَ الثلاثين! لا توجد في هذه الدنيا فتاتان مثل هند! هِنْدُ واحدةٌ إحدى!… ثم هي تُحبُّكَ وتُريدك!…

يتسارعُ شهيقُهُ وزفيرُه، تغيبُ «نظراته» في العدَم عند سماع أمِّهِ تحثُّهُ على الزواج!… يرفض ذلك تماماً خوفاً من الإنجاب! لا تروقُ لهُ فكرةُ الزواج إطلاقاً: لا ينسجمُ وفلسفتَهُ هذا التقليدُ الثقيلُ الذي فرضتْهُ العادات والتقاليد، وخضّبتْهُ الأديان بطقوسٍ وسلاسل ثقيلة!…

 

أبو العلاء يحبُّ العشقَ الهوائي، الحُرّ، المجاني، الذي ينتهي بالضرورة بأصدق وأقدس ارتباط: توحّدٌ طوعيٌّ يتجدّدُ تعاقدُهُ بِحُريّةٍ وقناعةٍ يوماً بعد يوم، بتشبُّثٍ وولعٍ حقيقيٍّ أكبر فأكبر!…

حبُّ «الإنسان الأعلى»؟ حبُّ القرن الواحد والعشرين؟ الواحد والثلاثين؟ الواحد والتسعين؟…

ثمّ هو يدركُ أنه سيكون عبئاً على من تتزوجه، في كلِّ لحظة. يلزمها أن تكون عكازَهُ الثاني!… يرفضُ أن يتوكأ على أحد: لا يريد أن يكون أكثر من نسمةٍ رقيقةٍ لمن تحبُّه!… يقبل أن يكون الكونُ عبئاً عليه خلال حياةٍ تدوم أربعة وثمانين عاماً، لكن لا يقبل أن يكون، هو، عبئاً على أحدٍ ثانيةً واحدة!…

 

*****

تحتدمُ المباراة، تزدادُ رغباتُ هِنْدَ عنفاً بمن تُحدِّقُ به دون كلل، بِصاحبِ هذه الكلمات الذي قال في أوجِ شبابِه (دون الشعور بِوَجَعٍ في كُوعِ الرِّجل، دون عُقَد!):

وإني وإن كنتُ الأخير زمانهُ         لآتٍ بما لم تستطعهُ الأوائل!

لكنها تطيلُ المباراة مع ذلك! تستفزُّ ذاكرتَهُ وبصيرتَهُ الأسطوريّتين، تُنهكُ بدهاء دماغَه العبقري الذي يظلّ متوتراً طوال المباراة. تُجبرُهُ في كلّ مرة على البحث عن إستراتيجيةِ نصرٍ جديدة يَستنفذُ بها أقصى طاقاته الذهنية…

 

لا تشعرُ بِنَوعٍ من الراحة إلا عندما ترى صدغَهُ يتكئ على كفِّهِ الأيمن: تقبضُ سبّابتُهُ وإبهامُه على خصلةٍ في أطرافِ شَعرِهِ الفضّي المنسابِ على عنقِه، تعبثان وتلعبانِ بها بحركةٍ لولبيّةٍ لا تتوقّف!…

الحيوانُ في أوجِ تفكيره!

يعتوِرُهُ قلَقٌ حلزونيٌّ ما؟

نوعٌ أنيقٌ من النرفزة؟…

 

يشعر فجأة أن ثوراً يستيقظُ في أعماقه، يريدُ أن يفترسَ هذه اللبوة الصغيرة التي تعرف كيف ترهقهُ أبداً، كيف تجعلهُ يُعطي أعظمَ ما لديه، كيف تعتصرُ كلَّ ملكاتِهِ وتشعلُ طاقاته الدفينة!… كيف تجعلهُ ينتظر، رغم أنها تحترقُ شوقاً مثله لأن تحومَ أطرافُ أصابعها كظبيٍ في بستان صدرِهِ وغابةِ لِحيَتِه. تموتُ رغبةً في أن تكون جوزاءَهُ، هو الذي قال أيضاً (وهو في معمعان شبابِهِ وهيجان خيلائه):

أفوق البدرِ يوضعُ لي مهادٌ     أم الجوزاءُ تحت يدي وسادُ؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى