صفحات العالم

نظام الإرهاب الكلّي الأسدي ولحظته التدشينية المكثفة

 

                                            وسام سعادة

هل يمكن بعد، في زمن الحرب التدميرية التي يخوضها نظام بشّار الأسد ضد الثورة السورية، بل ضدّ المجتمع السوريّ بحدّ ذاته، أن نعود أدراجنا، ثماني سنوات إلى الوراء، إلى زمن الحرب السرّية الإرهابية التي شنّها النظام نفسه ضد حركة الاستقلال اللبناني الثاني، ومن خلال رموزها وفي طليعتهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ضدّ نسيج المجتمع اللبناني، وأيضاً بمعنى استهداف المجتمع اللبناني في ذاته؟

حذار الأجوبة السهلة، أي تلك الغافلة عن الشرك الذي ينصبه لها هذا السؤال. فالإشكال الحيوي هنا هو كيف تكون استعادة الجريمة المتسلسلة الأولى مفيدة لفهم ومواجهة وإحباط الجريمة المتسلسلة الثانية التي ما زالت تتواصل بشكل دموي نافر على مرأى ومسمع ورياء من كل العالم، فيما الجريمة المتسلسلة الأولى، المستهدفة للبنان، لم تنقطع هي الأخرى، وفي البال جريمة اغتيال اللواء وسام الحسن.

كذلك فإن الجريمة المتمادية الكبرى التي تحدث اليوم بحق السوريين، إنما تعود فتضيء على جوانب أساسية من طبيعة ومرامي الجريمة المتسلسلة الأولى، لأن ما كان يمكنه أن يبدو مجرّد “وسيلة إرهابية” يعتمدها النظام لحماية نفسه من تداعيات انسحابه من لبنان، صار مفتضحاً الآن بوصفه “طبيعة إرهابية كليّة” للنظام، بل إننا ندّعي بأن ما يميّز النظام السوريّ، خصوصاً في مرحلة بشار الأسد، ليس “استبداده” بل “إرهابه الكليّ”: ليس “تركيع المجتمع” بل “تفكيكه”، بالبناء طبعاً على ما صنع في داخله من أشكال قهر فئوي واستمالة واستبعاد وإقصاء وإلغاء.

هناك أنظمة كثيرة تمارس “إرهاب دولة” متعدّد الأشكال، وهناك “أنظمة مارقة” تؤوي شبكات إرهابية أو تفاوض على أثمان بعضها، والنظام في مرحلة حافظ الأسد كان نظام المقاولة بامتياز في قطاع الإرهاب، تصديراً واستيراداً على مدار الساعة، لكن النظام البعثي في مرحلة بشّار الأسد لم يعد كذلك: صار بحدّ ذاته شبكة إرهابية تمارس شكلاً جديداً وخطيراً من الإرهاب الدولي، المهدد للسلام والأمن الدوليين، وليس فقط من إرهاب الدولة، وذلك في إطار الحرب التدميرية ذات الطابع الإبادي ضد السوريين.

حيوية النظام التي تفسّر “صموده” إلى الآن، ليست حيوية استبداده أو طغيانه، بل هي صورة مكبّرة ومضاعفة عن حيوية الشبكات الإرهابية. وأكثر من ذلك، يمكن القول إن بعض المحدودية أو التأخر في أسلوب ونتائج المواجهتين اللبنانية ثم السورية لفظائع هذا النظام إنما ترجع إلى إيثار الانطلاق من طبيعته الاستبدادية “الهرمة”، وتهميش طبيعته “الإرهابية الفتيّة”.

هذه الطبيعة الإرهابية لنظام بشّار الأسد تجد كل كثافتها في عملية اغتيال الرئيس الحريري، لكنها أيضاً طبيعة تشكّلت بالتوازي، في السياستين الأمنيتين لهذا النظام حيال الجارين العربيين، الأكبر، العراق، والأصغر، لبنان. ثم اكتملت هذه الطبيعة بقرار تدمير المجتمع السوري، والحرب ذات الطابع التطهيري الاثني لا سيما في مجرى نهر العاصي، والتي يمكن اعتبار لحظة اجتياح النظام بدباباته لمدينة حماة بمثابة لحظة الانطلاقة لهذا المسلسل، وتصعيد نوعي للغاية لا يقارن بالشهور الأولى “الكلاسيكية”، وإن كان بِغلّة دموية يومية.

إن وضع الجريمتين التاريخيتين المتسلسلتين، في لبنان ثم في سوريا، بإزاء بعضها البعض، بقطع النظر عن اقتصار الأولى على التنكيل بالعشرات من النخبة، والثانية بعشرات الآلاف، لهو ضروري للتنبه إلى الطبيعة الإرهابية للنظام السوري أولاً، ولموقع الإرهاب والتخويف من الإرهاب في سياسته الدعائية كما الدموية.

فإذا لم يكن جائزاً اعتبار الثورة السورية نتيجة لما زرعته حركة الاستقلال اللبناني الثاني، إلا أنّ الجريمتين المتسلسلتين لبشّار الأسد ونظامه، حرب الاغتيالات والتفجيرات على لبنان، وحرب المجازر على المجتمع السوري، تفسّران بعضهما بعضاً، وتعيداننا إلى جوهر الموضوع الذي لا يمكن أن يكابر عليه المجتمع الدولي طويلاً، وهو أنّ كل يوم يستمرّ فيه بشّار الأسد ونظامه الفئوي الدموي إنما هو يوم يتهدّد فيه بشكل أكبر السلام والأمن الإقليميين كما الدوليين.

فهذا النظام تجاوز منذ وقت ليس بقصير دور “المقاولة” في قطاع الإرهاب، باستيراد وتصدير مجموعات إرهابية، وتوجيه بعضها والإيقاع ببعضها الآخر، وصار يأكل من لحمه الحي، محاولاً عرض المجتمع السوري المذبوح على يده كفزّاعة للقاصي والداني، بحيث يجري التخوف من هذا المجتمع والمجالات التي صارت خاضعة للاستقطاب المذهبي المتطرّف ضمنه.

وقد يكون جائزاً بلا ريب الربط بين الطبيعة الإرهابية لنظام بشّار الأسد وبين الطبيعة الفئوية لهذا النظام، انطلاقاً من تعكيزه المتزايد على لعبة “تحالف الأقليّات” وعلى “اللاسنّية”، لكنه ينبغي ألا ننسى أن الغلبة للطبيعة الإرهابية. فبعد الاحتلال الأميركي للعراق، كان هذا النظام في طليعة من يمدّ الداخل العراقي بالمجموعات الدموية والتكفيرية للشيعة، وقيل وقتها إنه يتبع نوعاً من “السياسة السنية” في العراق، في وقت كان فيه أمثال نور الدين المالكي يكثرون اتهام النظام الحاكم في دمشق وكذلك “حزب الله” بتدريب وتجهيز وإسناد متطرفين من طراز “القاعدة”. فئوية النظام دموية بشكل عام، لكنها لم تتبنّ “اللاسنّية” في العراق بعد الاحتلال، بل على العكس تبنّت “التطرّف السنّي” فيه وبشكل أضعف العرب السنة عملياً، بالنتيجة، وجعل الهيمنة الشيعية فيه تغادر شيئاً فشيئاً جادة الواقعية والاعتدال لصالح مجاراة منظومة الممانعة الإيرانية السورية، والانزلاق اليها أكثر فأكثر بعد الانسحاب الأميركي.

في المقابل، كلما كان النظام يذهب نحو ملاقاة حتفه كان يعكّز على النعرة “اللاسنية” أكثر من سواها. صحيح أنها نعرة خبيثة، وذكية، خصوصاً مع ارتفاع منسوب الأسلمة في الثورة السورية، نظراً إلى العلاقة التلاؤمية بين العسكرة والأسلمة، ونظراً قبل كل شيء إلى الاستشعار الكبير لحجم الصلف والغي الفئويين، وعلى امتداد عقود، إلا أنّها بالنتيجة ورقة من لا يستطيع من بعد “إرهابه الكلي” أن يعود إلى ممارسة الاستبداد.

لقد خرجت توصيفات كثيرة للنظام السوري في عهد الطاغية الأب والطاغية الابن. هناك من وصفه بالاستبداد، بالمروق، بالفاشية، بالستالينية، بالتوتاليتارية. في الواقع، وباستثناء المروق الذي يلبس النظام وأركانه لبساً تاماً، فإن التوصيفات الأخرى أرقى منه، وهو أكثر نتانة من أن يجسّد جدياً أياً منها. إنه فقط نظام إرهابي، لكن إرهابه ليس مجرد وسيلة يعتمدها ويمكنه حفظها في الثلاجة لاحقاً. لقد أمسى الإرهاب طبيعته اللاصقة، بل الصميمة، بل الكلية. لأول مرة في التاريخ يمكن الحديث عن نظام إرهابي من ألفه إلى يائه، وعن شبكة إرهابية تتخذ شكل نظام حكم في دولة. إنه نظام الإرهاب الكلّيّ، نظام يتجاوز مع بشار الأسد طبائع الاستبداد البعثي برسالتيه، الحافظية والصدّامية. وهذا الإرهاب الكليّ يجد في لحظة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لحظته التدشينية بامتياز، مثلما تجد حركة التحرر من هذا النظام – الشبكة، في هذه اللحظة ينبوع انطلاقتها، وأساس انتصارها، للحقيقة، بالحقيقة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى