صفحات سورية

نظرات في الثورة السورية


د.فراس المصري

مضى على ثورة الحرية والكرامة في سوريا حوالي خمسة أشهر استطاعت فيها زعزعة الحكم الأسدي العائلي والقائم على سطوة أجهزة الأمن وتبادل المصالح مع فئات من التجار ورجال الدين والمثقفين.

كما استطاعت هزّ مصداقية وشرعية الأسد خارجياً. وبالمقابل يتصدى النظام للثوار المدنيين العزّل بشراسة ودموية منقطعة النظير خلّفت أعداداً كبيرة من القتلى والجرحى والمشردين والمعتقلين على أيدي قوات الأمن والشبيحة والجيش. لم يتورع النظام في محاولة إخماده الثورة السلمية عن استخدام الدبابات في قصف المدن والبلدات وتسليط النيران على المواطنين السلميين بشكل عشوائي أو عن طريق القناصة لكسر لإرادة الشعب في التحرر وإرهابه وتحطيم معنوياته. ورغم ذلك تستمر المظاهرات وتمتد بشكل يظهر مدى التضحية والبطولة لدى المواطنين في توقهم إلى الانعتاق والتحرر من عقود الذل والقهر والفساد.

ورغم أن ثقتنا كبيرة في قدرة الشعب السوري على تحقيق أهداف الثورة في إسقاط النظام ومن ثم بناء دولة ديمقراطية مدنية تضمن الحرية والمساواة لجميع المواطنين بغض النظر عن الدين والعرق والجنس، فإن أسئلة صعبة تدور في الأذهان من منطلق الخوف على الثورة وتبحث عن إجابة. هل يتمكن النظام من إعادة الشعب الثائر إلى بيت الطاعة أو السجن الكبير ويسلبه بذلك إنسانيته من جديد؟ وهل تملك الثورة الشعبية إمكانيات الاستمرار حتى تحقيق النجاح؟. جاءت الثورة الشعبية من حيث لا نتوقع غيثاً مدراراً أحيى الأرض بعد موتها وغيرت كثيراً من المفاهيم والقيم والسلوك والثقافة على الأرض، ما كان يمكن لمثل هذا التغيير أن يحدث إلا بعد مرور عقود عديدة من العمل المدني التربوي والإعلامي. وبدأت تظهر ملامح الإنسان الجديد الحر الذي لم يعد يرضى بالعبودية والصمت والظلم والذل بل أصبح يطالب بممارسة حقه في التفكير والتعبير و المشاركة في بناء مجتمعه بحرية دون خوف.

لم تكن الثورة السورية ثورة جياع ولا ثورة فئة عرقية أو دينية أو اجتماعية معينة بهدف الحصول على مزيد من المكاسب والامتيازات التي قد تكون محقة و لا غبار عليها، ولكنها ثورة وطنية حرّكتها بالدرجة الأولى قيم ومبادئ تسمو فوق كل تلك المنافع الطبقية والفئوية المحدودة. فالنظام السوري فرض عبر عقود قيماً تخدم بقائه وديمومته بالقوة والقهر والترهيب فتفشّى السكوت على الخطأ والخوف والرضوخ للهوان والنفاق والكذب والجبن والانتهازية والرشوة وغيرها من صنوف الفساد التي لم يسلم منها أحد بل شملت النخب الثقافية والدينية ما عدا قلة قليلة كان مصيرها الملاحقة والاعتقال وسائر أشكال الاضطهاد. ولكن تظل دائماً في الإنسان أي إنسان كوامن الفطرة السليمة التي تنزع إلى كل ما هو حق وخير وجميل مهما حاول أي نظام استبدادي طمسها ومحوها. وعندما تتوفر الظروف الموضوعية للثورة على الواقع الشاذ والقيم القبيحة السائدة التي عطلت المجتمع من النهوض والأفراد من الابداع والنشاط الحر البنّاء، عندئذٍ يبرز دور القيم الإنسانية الأصيلة لتحرك الجماهير المتعطشة لها بعد كانت كامنة تغلي كالمرجل في الصدور.

لقد تكونت نواة صالحة لحراك اجتماعي مدني صحي في كل مدينة وقرية على امتداد الجغرافية السورية، ونبتت في النفوس بذرة الرغبة بالمشاركة والمبادرة الفعالة للوصول إلى ما تصبو إليه من واقع إنساني حر كريم. ورأينا كيف يحاول النظام ما استطاع إلى ذلك سبيلاً القضاء على هذا الوضع الجديد الذي بات يهدد وجوده من خلال بث الرعب وتحطيم معنويات الشعب الثائر باقتحامه للمدن والبلدات بقوى الجيش والامن وتمزيق أوصال المدن والقتل والاعتقال والتعذيب الذي يستهدف في كثير من الأحيان قادة الحراك الميدانيين. ومن المستبعد إن لم يكن من المستحيل إطفاء جذوة الثورة و روح التغيير التي بُثت في الانسان السوري ودفعته إلى تقديم التضحيات الغالية رغم أساليب التنكيل والبطش والإرهاب التي يستخدمها النظام. وفي كثير من الأحيان تشكل هذه الأساليب عاملاً مهماً لازدياد النقمة الشعبية وانتشارها.

خرج الألوف من المواطنين العزّل إلى الشوارع والساحات منطلقين في الغالب من المساجد وهم يعلمون أنهم قد يلقون مصرعهم أو ينهال عليهم الشبيحة بالضرب الوحشي أو يعتقلون، وهم بهذا يضربون أروع الأمثال في البطولة والبذل تذكرنا بسيرة الأنبياء والصديقين في استعدادهم للشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق. وهنا يبرز البعد الإيماني الاسلامي بمفهومه الإنساني الوطني التحرري ليقدم إضافة إيجابية ضرورية تشد عرى الثورة وتذكي شعلتها.

ولئن تمكن النظام بشكل مؤقت من إعاقة نمو الثورة على المدى القصير فإنه كمن يضع غطاءً ليمنع البركان من إصدار الحمم ولا بد للبركان عاجلاً أو آجلاً أن يتفجر بقوة أكبر. النظام في سباق مع الوقت لقمع الثورة بكل الوسائل الممكنة في الوقت الذي تزداد فيه الضغوط الدولية عليه. ربما يستطيع النظام في أسوأ الأحوال إضعاف الثورة لفترة من الزمن وبالتالي يطيل من عمره، ولكن لا مفر من أن تتصاعد مظاهر الثورة الجماهيرية من جديد بشكل أعظم قدرة على المقاومة والصمود. وإذا استعرنا فلسفة رئيس النظام عن الجراثيم فيمكننا القول علمياً أن الجراثيم التي تُكافح بمختلف أنواع الصادات الحيوية ستظهر بعد ذلك بقوة وبعناد ومقاومة أكبر.

لكن لا بد للحراك الشعبي أن يستمر في تطوير الأداء النضالي وتنويع أساليب العصيان المدني وأن تتبلور صيغ للتنسيق الميداني ولو على المستوى الاستراتيجي بحيث تتجلى على الأرض ما يمكن أن نسميه بالحراك العفوي المنظم.

استمرار المد الشعبي الثوري سيؤدي شيئاً فشيئاً إلى إنهاك النظام إدارياً ومالياً وإلى تراجع في قدرات وجاهزية الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تدعم بقاء النظام وإلى تخلي الصامتين والحياديين عن صمتهم وحياديتهم. صحيح أن النظام يمكنه الاستمرار والتشبث بالحكم في عزلة عن العالم لشهور أو ربما لسنة أوسنتين ولكن الشعب أيضاً لديه الامكانيات والإرادة للنضال بنفس أطول حتى سقوط النظام.

ناشط سياسي سوري

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى