صفحات سورية

نظرة قريبة على الواقع السّوري

 


ليس النظام الحاكم في سوريا مجرّد نظام تنطبق عليه مواصفات الأنظمة التوتاليتارية التي ابتلت بها بعض المجتمعات إن لم نقل أغلبها على مرّ العقود, بل هو حالة فريدة تستحقّ الدراسة حتّى من قِبل الناشطين في مجال علم النفس الاجتماعي.

اكتسب النظام السّوري عبر سنواته خبرة أمنيّة لا يستهان بها, و استطاع تنشئة جيل يمتلك من المفاهيم المشوّهة ما يعطي هامش زائد لشرعنة سلوكيّاته .

فأصبح هناك لدينا مشكلة حقيقيّة في الواقع السّوري, فقبل أن نقف و نحاسب أو نتواجه مع النظام الحاكم , أصبح لزاماً علينا أن نقف بمواجهة هذه الشريحة ذات المعايير الشاذّة.

هذه الشريحة هي من سيقف في وجه التغيير, و هي من تشكّل خطراً على أي حراك شعبي في سوريا.

فالنظام قد نجح في زرع أفكار غير صحّية على المستوى السياسي و الاجتماعي, فماذا نقول في شريحة اجتماعيّة تعتقد أن قمّة الوعي السياسي هي في الهتاف بروح القائد الضرورة ؟

ماذا نقول في من يعتقد أنّ الوطن يمكن اختزاله بكلّ بساطة بهذا الشخص الاستثناء , بحيث أصبح هناك من يرى أن الذي يهتف “بالروح بالدم نفديكِ يا سوريا” هو شخص مغرِض و مدسوس و لا يريد الخير للمجتمع و الوطن , و لكن الذي يهتف “بالروح بالدم نفديك يا بشّار” فهو الوطني بامتياز و يستحقّ أن يوضع على صدره بضعة نياشين بلاستيكيّة .

ماذا نقول في من يرى أن النظام الحاكم هو نظام ممانعة و صمود ؟ ترى أين هي الممانعة؟ هل هي في محاربة اسرائيل حتّى آخر لبناني مثلاً؟ أم هي في حماية حدود الجولان لمدّة 40 عاماً من أي مواطن سوري قد يحمل بندقيّته و يحاول التسلّل للجولان ؟ أم هي في الاحتفاظ بحقّ الرد أثناء دخول مقاتلات معادية لتعبر سوريا بالطول و العرض قبل أن تقصف موقعاً بدير الزور؟ أم هي في الوقوف كالغنم أمام المروحيّات الأمريكيّة التي قتلت عدد من السّوريين في البوكمال ؟

هذه الشريحة الاجتماعيّة أصابها من التشويه الشيء الكثير, لدرجة أن هناك من يبرّر وجود مافيوزي مثل رامي مخلوف في أغلب الفعاليات الاقتصادية بسوريا, من منطلق أنّه على الأقل يستثمر أمواله بسوريا و يقوم بتشغيل بضعة آلاف من السّوريين! لا أفهم ما الفرق الذي تراه هكذا أفواه بين رامي مخلوف و عبد الحليم خدّام حتّى نراها تهمل الأول و تهاجم الثاني و كأنّه لم يكن من العصابة الحاكمة أو لم يكن يعمل تحت اسم النظام نفسه.

أستطيع فهم أي مواطن سوري يلتزم الصمت عن ما يجري الآن, بحيث يقف كالمشاهد فقط و لا ينخرط بأي من الفريقين, الفريق الأول للمدسوسين المتآمرين الخونة الذين يقبضون من الموساد و أمريكا و بندر بن سلطان و زمبابوي و الفلبّين و بضعة كواكب أخرى , هذا الفريق حتى لو كان بعضه من قرى نائية لم تصلها خدمات الحكومة نفسها لكن استطاعت أموال الموساد أن تصلها عن طريق الحمام الزاجل بالرغم من أن أغلب الذين خرجوا قد لا يكونوا خرجوا من سوريا بحياتهم و بعضهم لم يزر دمشق بعد !

و الفريق الثاني للوطنيّين الأحرار الأباة الأشاوس الشرفاء الذين يأكلون الزلط , أصحاب الوعي السياسي المخضرم و أساتذة في دروس الوطنيّة و القوميّة و الصمود و الممانعة و العروبة, هذا الفريق الذي يختزل وعيه و وجوده ببقاء الرئيس و يرى أن خطاباته أهم ما في الوجود, بل تمادى البعض ليرى استحقاق الرئيس ليكون قائد العالم و ليس فقط الوطن العربي !

هذا الفريق الذي بكل جدارة أفرز نخبة شعبية لتستلم زمام الواقع التشريعي في البلاد عن طريق مجلس الشعب, هذه النخبة التي اختصرت مهامها التشريعية في تحويل المجلس لسوق عكاظ مع بضعة مزاودات و تطبيل و تزمير مبتذل لا يكاد ينقصه إلّا بضعة راقصات تشاركهم هذا العهر الوطني .

نحن في سوريا أمام هكذا شريحة اجتماعية لا تتقن إلا التصفيق , و لا تناقش إلّا بالصراخ , و لا تستوعب فكرة وجود رأي آخر , فأي شخص يتكلّم عن الواقع المعاش هو شخص مدسوس و لا ينتمي للفسيفساء السورية.

بالطبع لم تتوانى أجهزة الإعلام السّوريّة -التي لم تتغيّر طبعاً منذ أن اقتحمت قوّات الأسد مؤتمر القيادة القومية و اعتقلت فيمن اعتقلت الزعيم صلاح جديد – عن تقديم كلّ ما قد يخدم موقفها المتزعزع في إثبات تآمر القوى الكونيّة والاقليميّة على “واحة الأمان باللون الزهري ” حتّى لو كان هذا على حساب زيادة العيار في استحمار الشعب السّوري و الذي وصلَ لمرحلة الفصام النفسي في الفرق الخرافي مابين الدراما السّورية و بين الأفلام الهندومكسيكيّة التي تقدّم أسخف ملاحم الكذب الوطني.

يبقى لديّ في جعبتي التنويه على أنّ من نراه على الشاشات يهتف بالحرّيّة و إسقاط النظام هم الأشخاص الذين يضعون حياتهم على المحكّ و لا يهتمّون بالاعتقال أو الموت, أي أن شريحة الشعب التي تريد تغيير النظام الحاكم هي أكبر بكثير مِن شريحة مَن يخرج للشارع, و لذلك نرى أن المتظاهرين هم من فئة الشباب بشكل واضح, فمَن يمتلك عائلة و أولاد أو من هو موظّف بالدولة .. الخ لن يستطيع المجازفة بالوقت الحالي لأن يخرج للشارع , و يراهن هو على الوصول للكتلة الحرجة من الحشد الشعبي و التي ستنضم عندها شرائح مختلفة من الشعب من ضمنها الشرائح البرجوازيّة التي لا تمتلك -بالوقت الحالي- الارادة الكافية لوضع كفّة فعاليّاتها الاقتصاديّة على المحكّ.

و السؤال الذي يبقى في مخيّلتي هو أنّه لو ربح النظام هذه الجولة , و اضطرّت الجموع الثائرة أن تهدأ رغماً عنها , هل بالفعل سنرى تغيير أو قفزة في الواقع المعاش بسوريا؟

هذا النظام الذي زرع فكرة أن الأمان أهم من الحرّية, فالحرّية بالنسبة له هي الفوضى و الطائفيّة و السرقة و النهب و التخريب , و الحرّية قد تعني وصول الاسلاميين للحكم و التفجيرات و القتل على الهوية.

حسناً إذاً, هل سيستطيع النظام أن يتخلّص من ثقافة الفساد و المحسوبيات, و يجتث الطفيليّات التي خلقت اقتصاد موازي للاقتصاد الوطني , اقتصاد قائم على النهب و الرشوة , هذه الطفيليات على رأسها أسماء كبيرة قد يكون رامي مخلوف و شاليش و ميقاتي و حمشو عبارة عن أدوات لهذه الأسماء .

هل سيستطيع النظام أن يفهم أن ما يجري في سوريا ليس من أجل الاصلاح الاقتصادي فقط , بل هو من أجل الاصلاح السياسي الذي من دونه لا معنى لأي خطوة أو بادرة تسويفية يقوم بشّار الأسد بإرضاع الشعب من حليبها ؟

متى سيحين الوقت ليدرك النظام أن الأزمة أزمة سياسيّة , و مهما حاول النظام إفراغ هذه الأزمة و وضعها تحت بند الأزمة الاقتصاديّة و الاجتماعيّة , و مهما قدّم من حلول أمنيّة ,فالشّارع السّوري لن يرحم أحداً بعد اليوم طالما أنّه أصبح خالياً من الخوف.

“المندسة السورية”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى