شمس الدين الكيلانيصفحات الثقافة

نظرة مثقف السلطة إلى الثورة السورية/ شمس الدين الكيلاني


يصطنع مثقف السلطة (الذكي) الحياد العلمي الصارم، في زمن نزيف الدم، حين يصبح الحياد جريمة، مصرَّاً على تبرير أعمال السلطة. يستخدم مفاهيم ومصطلحات متعالية، ولا يهز وقاره العلمي الدم المسفوك في الشوارع، ولا عذابات زهرة شباب سورية في الأقبية المُعتمة، ولا رعب الأطفال والنساء تحت زخ الرصاص. فمفردات الألم والخوف والمعاناة، وانتهاك كرامات الناس واستباحة الأعراض، هي عنده مفردات تصلح لجدالات الحياة اليومية العابرة والتافهة، لكنها لا تستقيم ولغة العلم الموضوعي! موضوعه الوحيد يتلخص في البحث عن الحامل الطبقي أو الاجتماعي الذي غذَّى الاحتجاجات الاجتماعية في سورية. المهم لهذا الباحث السلطوي،هنا، ليس معرفة المظالم المتراكمة والكرامات المهدورة، والخوف المقيم، التي قادت كلها الإنسان العادي إلى الثورة على الظلم واستباحة الحقوق. لا يسأل مثقف السلطة لماذا قامت الثورة، لأن هذا السؤال يحيله إلى عالم السلطة، المسؤول الأول عن المظالم، بل يسأل عمَّن قام بالثورة، عن الأصول الاجتماعية للاحتجاج وحسب. المقاصد المنهجية لهذا الباحث (الموضوعي) هي نفسها المقاصد المنهجية لرجل الاستخبارات. هي معرفة (الفاعل) لوضعه في قفص الاتهام / المعتقل، وليس معرفة المظالم ومصادرها وأشخاصها لرفع الظلم ومصادره. هدفه البحث عن (الثائر/المجرم) وليس عن أسباب الثورة/الجريمة! وإذا حاول الاقتراب خلسة إلى (الأسباب) فليسفّهها وليضعها في الهامشي والثانوي: العشوائيات، الفقر والبطالة، اللبرلة الاقتصادية. مستخدماً هذا المفهوم الأخير ليغطي به ظاهرة اقتصادية باتت مهيمنة، جوهرها إطلاق يد رجال السلطة في ثروة البلاد بعد أن امتلكوا رقاب العباد، فجمعوا بين السلطة واستثمار الثروة الناتجة منها، مع السماح بعبور شركاء صغار في السوق. هذا هو معنى اللبرلة الحقيقي في سورية. ثم يحيلنا المثقف السلطوي، في (أسبابه) إلى مطالب معيشية ومحلية، على طريقة معالجات السلطة المعروفة لمطالب الثائرين، مستخدماً السوسيولوجيا لخدمة المقصد الاستخباري. لم يكن هذا الوضع سوى استمرار للنهج الذي افتتحته (الحركة التصحيحية)، التي ربطت باب الثراء والارتقاء في سلَّم السلطة وأجهزتها، ثم تحول الولاء الأمني، منذ الثمانينات، إلى رافعة شبه وحيدة، لتنامي الثروة ومعها النفوذ.

ينظر مثقف السلطة باستخفاف إلى مدن مليونية مثل حمص وحماه ودير الزور، يراها مدناً هامشية، علماً أن سكانها يعادلون عدد سكان سورية في الخمسينات، وسكان لبنان حالياً، ويعادل عدد سكان كل من حماه وحمص ثلاثة أضعاف سكان دمشق في الخمسينات. ولا تنقص تركيبها الاجتماعي التكوينات الطبقية لدمشق وحلب. فالاختلاف كمي لا كيفي. يأخذ على امتداد الثورة إلى القرى دليلاً على هامشية الحركة، بدلاً من أن يأخذها رمزاً على عمقها، التي ضاهت في شمولها الثورة السورية الكبرى. وعوضاً عن توجيه بحثه لمعرفة مصدر التفاوت في فوران الاحتجاجات إلى مركزية الأجهزة وتشعبها وانغرازها في المجتمع في هذه المدن، يجد ضالته في (خصوصية طبقية) لدمشق وحلب. والحال أن كل المدن التي استطاعت أن تتخلص من الاحتجاز، شكَّلت لها (ميدان تحريرها) الخاص، وتوقف نزيف الدم فيها. هذا ما حدث، لفترة، في حمص وحماه ودير الزور وإدلب ودرعا والجسر وبانياس والرستن. بل إن تعاظم المركزية المطلقة لأجهزة السلطة وتغلغلها وسطوتها، لم يمنع من أن تفتتح دمشق الاحتجاجات من قلبها (الحريقة والجامع الأموي)، ما لبث أن شارك: المالكي والمهاجرين وكفر سوسة، ومن قلب المدينة في الميدان وساروجة، وزملكا والمزة والقدم، والحجر الأسود والعسالي، مع ما يحيط بها من ضواحٍ ومدن.

يتجنب مثقف السلطة الحديث عن رموز ميدانيين للثورة أمثال نجاتي طيارة، أحد رموز ربيع دمشق، المعتقل منذ أشهر، والشاهد الكبير على ما جرى في ميدان باب السباع، قلب حمص وليس طرفها، والفنانة فدوى سليمان، وفارس الحلو وغيرهم كثير. فهذا المثقف لا يطيب له سوى التقاط صور مجتزأة بحثاً عن السلفيين!

* كاتب سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى