صفحات الثقافة

نظرية المؤامرة: الذهان المزمن في ما وراء القص/سانتياجو خوان نافارو

ترجمة: أماني أبو رحمة

تبدو البارانويا أو جنون العظمة والاضطهاد paranoia أو الفصام schizophrenia الأكثر شيوعا ـ من بين كل أشكال الإضرابات العقلية ـ في كتابات ما وراء القص في أمريكا الشمالية .

إن كلمة ومفهوم جنون العظمة والاضطهاد من بين أكثر المفاهيم والمصطلحات جدلية في تاريخ التحليل النفسي. وبالرغم من أن كلمة بارانويا تعني اشتقاقيا الجنون أو الاضطراب في العقل , إلا أن لابلانش وبونتاليس قد عرفاها على أنها ذهان مزمن يتميز بالضلالة المحبكة والمحكمة التركيب systematized delusion, مع هيمنة الأفكار الاشارية ideas of reference دون ضعف في الذكاء […..].

وضع فرويد هلوسات الاضطهاد جنبا إلى جنب مع الهوس الشبقي erotomania , والغيرة الوهامية delusional jealousy, وتوهم العظمة grandeur delusions of تحت عنوان البارانويا . ومن الضروري التشديد على انه خلافا للفصام الذي يعتبر التفكك Spaltung أهم أعراضه ، والذي يتميز بعدم تماسك الأفكار والأعمال والمشاعر , فإن البارانويا لا تكون مصحوبة بأي تدهور عقلي أو فكري . أكثر من ذلك فإن إنتاج الاهتياج البارانووي للإشارات والروابط يؤدي إلى تسارع غير منضبط للذكاء . من وجهة نظر التحليل النفسي فإن هذا النوع من فرط الوعي يؤدي إلى خطاب ذهاني .

و في الأدب , وُظف الوعي المفرط من قبل الكتاب ـ من بين تقانات أُخر ـ بغرض توصيل النغمة الإلهامية النبوية و المتبصرة في سردياتهم . ومع ذلك ، فإنه ليس من الصعب أن تجد كل أشكال الذهان في العمل نفسه. كما أنها قد تتعايش في الحياة الحقيقية ، الحالة التي أشار إليها فرويد و أيمل كرايبيلن بتوظيف مصطلح ازوار paraphrenia(1).

ومن المألوف أن نجد أصوات سردية بارانووية تصف الحبكات والمتحاورين في كتابات ما وراء القص الأمريكي المعاصر . وضحايا هذا العدوان الشامل هم عادة الشخصيات التي تواجه التفكك العقلي أو الانحلال. هذه الشخصيات التي تحتل الكون وتتمايز بما اعتبره فريدريك جيمسون في علم النفس المرضي (عصر الرأسمالية الإدماجية ) :عصر تسيطر عليه الشركات المتعددة الجنسيات وبيروقراطية الدولة ، في ظل غياب البرجوازية الموحدة .

في دراسته لتاريخ السياسة الأميركية ، يسوق ريتشارد هوفستاتر بعض الملاحظات ذات الصلة بشأن ما أسماه ( أسلوب جنون العظمة ) . وفقا لهوفستاتر ، فإن هذا الأسلوب يعتقد أن (القوة الدافعة) في التاريخ هي مؤامرة هائلة تحركها قوى شيطانية لسلطة فائقة . يصور المتحدث باسم البارانويا مصير مؤامرته المروع بمصطلحات رؤيوية غامضة ، إنه يقامر بولادة وموت عوالم ونظم سياسية بأكملها وقيم إنسانية برمتها.

هذه النظرة التآمرية للتاريخ ليست استثناء في السياسة الأميركية والأدب ، ولكنها مبدأ ثابت يعود في جذوره إلى الأدوات الوثنية للخيال البروتستانتي المتطهر .

وعلى الرغم من أن العديد من كتابات ما وراء القص في ما بعد الحداثة تعتبر من قبل منتقديها ممثلة لـ (أسلوب جنون العظمة) ، إلا إنني أود الاحتفاظ بهذه التسمية للحالات الأكثر تطرفا. لذا فإنني سأتتبع ، عن كثب تعريف هوفستاتر ،متناولا ـ في الوقت ذاته ـ مواضيع اللغة المجازية ،والبناء ، والشكل.

يتناول الضالعون في الأدب البارانويا وغيرها من أشكال الاضطرابات العقلية في حدود ما يتعلق بالتشخيص والأفكار الأساسية ، ونادرا (ما عدا في حالة بينشون) ما يناقشون الحافز البنيوي في السرد . ووفقا لهوفستاتر ، فإن السمة المميزة للأسلوب البارانووي لا تكمن في النظر إلى المؤامرات بوصفها ظواهر مشتتة , ولكن في كونها تفترض وجهة النظر القائلة بان مؤامرة واسعة النطاق هي القوة الدافعة للتطور التاريخي. تؤيد اثنتان من روايات ما بعد الحداثة الأمريكية هذا التعريف تأييدا كاملا : (الغداء العاري) للكاتب الأمريكي وليم س. بوروز و (قوس قزح الجاذبية) لبينشون .

تعاني الشخصيات الرئيسية في أعمال بوروز وبينشون من اضطرابات عقلية تتميز بالشعور بهلوسات محكمة عن الاضطهاد .

تتكرر البارانويا في شكل صور قهرية واستعارات ، ولكنها أيضا تناقش بشكل علني بوساطة الأصوات السردية والشخصيات . تطابق الأنماط التنظيمية للروايتين رؤية بارانووية تفترض أن هناك منظومات خفية لنظام ما في ظل الفوضى الظاهرة .

تصور المؤسسات العامة بوصفها ممثلة للجريمة: ينظر إلى التعليم ، والحكومة ، والصناعة ، و القوانين ، والطب ، والسياسة ، والعسكرية ، وعلم النفس ، والعرق ، والدين والجنس ، والتكنولوجيا, على أنها تآمرية .

يكشف الكاتبان ـ كونهما نموذجين لكتاب الستينيات والخمسينيات ـ عن مخاوفهما من أن تكون السلطة الحاكمة مؤامرة مجردة لا يمكن تفسيرها. كما أنهما يكشفان عن ارتيابهما من النظم, ولكن ليس بالقدر نفسه. ففي حين أن فحوى رواية بوروز هو معاداة النظام جذرياً (على الرغم من حقيقة كونها “قد صنفت ” بوصفها رواية تناقض مثل هذا الادعاء) ، نجد أن بينشون يتوق لنظام بديل (القوة المعادلة) ويخشى، في الوقت ذاته ، من نقيض البارانويا ـ الافتقار المطلق للاتصالات ـ أكثر من البارانويا نفسها.

أما ما يتعلق باختيار مصطلح تحليل نفسي دقيق ، فربما كان توظيف مصطلح كرايبيلن ازوار paraphrenia هو الأكثر ملائمة لوصف (الغذاء العاري) .

وتبعا للابلانش وبونتاليس , فإن ذهان الشخص الذي يعاني من الازوار يمكن مقارنته بالفصام من خلال وجود تراكيب معقدة سيئة التخطيط مرتكزة على هلوسات ومحادثات وهمية . ومن الأهمية بمكان ،أن نلاحظ أن (الغذاء العاري) لم تفشل في منهجة بنائها السردي ودوافعها ، وإنما كرست لتكون (بلا نظام ) قدر الإمكان . وقد حققت هذا الجانب بوسائل الفصام : الانسحاب من الثقافة العامة لإنشاء نسخة كرتونية عن صراع الخير , طويل الأمد , ضد الشر . و في الوقت نفسه قلب أو تفجير القوانين الأخلاقية والاتفاقيات التي عادة ما تؤكدها هذه الأنواع العامة . تقاوم رواية بوروز بصورة أكثر دراماتيكية من رواية بينشون ، ذلك النوع من التفسير الذي يقدمه (النقد الأدبي الإنساني).

ينطوي وصف رواية ما بـ( هجاء أخلاقي ) ـ كما يفعل معظم النقاد ـ على توطيد ما حاول بوروز تقويضه تحديدا : أسس الازدواجية الأخلاقية.

بنيت رواية (الغذاء العاري) على أساس من الكوابيس المتعاقبة من الهيمنة التي تمارسها قوى غريبة. يواصل الخير والشر صراعها في محيط ” الانترزون” وهو عالم واقعٍ مرير ووهمي ، وُصف على انه (مدينة مركبة ) . ولكن الخير لم يعد يرتبط مع السلطة والمؤسسات (الأمة، والأسرة ، والدين) ، ولا الشر مع الهامشية والتخريب. بل أن العكس هو الصحيح على الأرجح ، على الرغم من أن الغموض الكامن في النص يرفض إرواء تعطشنا إلى معان ثابتة .

على مستوى ما, يرتبط الشر المطلق بانهيار الإرادة الفردية والهوية، وليس باحتماليه وجود أي عمل لا أخلاقي مدان اجتماعيا. الإدمان هو مجرد واحدة من وسائل ضبط وإلغاء الذات. وتبدو البشرية جمعاء ضحية لشكل من أشكال الإدمان. في هذا السياق فإن الجسد ليس أكثر من مجرد فخ بيولوجي ، والمجتمع موجه من قبل (مدمني السيطرة ) .

انترزون : مبنى واحد يتكون من غرف لانهائية ، وسوق متعدد اللغات في الوقت ذاته . هي مدينة المرسلات الرقمية والأرض اليباب ، تجتمع فيها كل المدن ، والأشخاص والحكومات في العالم في أتون هائل تنصهر فيه التجارة ، والجنس ، والإدمان ، والتنافس ،والتلاعب السياسي. سكانها يقضون وقتهم في ممارسة الجنس، والتداولات، و المعاملات في سخرية واضحة من المجتمعات الاستهلاكية الغربية.

تجسد انترزون في العديد من الجوانب وصف جيمسون للرأسمالية متعددة الجنسيات ، والتي تتميز بنمو الشركات الدولية العابرة للقارات , وما يترتب على ذلك من تجاوز للحدود الوطنية. يحدد جيمسون لرأس المال المتعدد الجنسيات ,مجالا جديدا للتسليع commodification” ” يمثله بتفوق وبراعة. في هذا المجتمع نجد أن الإنتاج، والتبادل، والتسويق، والاستهلاك للأشكال الثقافية، بما في ذلك الإعلان و التلفزيون والإعلام الجماهيري بصفة عامة، تشكل محور الاهتمام والتعبير عن النشاط الاقتصادي.

تربط (لغذاء العاري ) بين سلطة التنفير، والإقصاء، والعداء لهذه الأشكال، والذهان السلوكي.

في مركز الترميم أو إعادة التأهيل تختزل التقنيات المهينة الإنسان إلى Latah (2) يؤذي نفسه بينما يحاول تقليد حركات عدة أشخاص في آن واحد ” نسخة هزلية عن الإنسان الذي تم اختزاله إلى اغتراب شامل وفصام مطلق تحت عنوان “برامج تعديل وتكيف الإعلانات والأخلاقيات المتفق عليها اجتماعيا وعرفيا عن طريق المرسلات الرقمية” (موترام 34:-5).

استبدلت جميع النظريات السياسية بـ ( علم جبر الحاجة). حيث تبنى أهرامات السلطة والثراء على قاعدة من مجموع الاحتياجات للمخدرات ، أو الجنس ، أو السلطة ، و تمنح حالة “مقايضة التافه وسقط المتاع” نموذجا لجميع الإمبراطوريات السياسية والاقتصادية : “تاجر الخردة لا يبيع المنتج للمستهلك ، انه يبيع المستهلك للمنتج. انه لا يُحسّن أو يبسط بضاعته. انه يحط من قدر عملائه وزبائنه “(بوروز السابع). يتوافق تحليل بوروز السياسي مع نظرية المؤامرة : قلة في الخفاء تتآمر من أجل التلاعب والسيطرة على الجموع . تحال الأحزاب السياسية في انترزون حكم العالم ,من خلال السيطرة التامة العقلية والجسدية على الجنس البشري ،إنهم مدمنو السلطة .

يمر كل عنصر من العناصر الثقافية والإيديولوجية في عالم بوروز المصغر بعملية التبسيط التي يرى جيمسون أنها سمة من سمات ما بعد الحداثة. يبدو العلم والفنون في هذا الكون كما لو انه تم استخراجها من الثقافة الشعبية. العلم في (الغداء العاري) يتكون من المعرفة العلمية التي تروجها وسائل الإعلام. الزعماء الدينيون في انترزون هم جزء من النخبة التي تخدع الجماهير. قلصت الديانات الكبرى في العالم “نبي الساعة” ، دين الإذاعة والتلفزيون الذي يبشر بالدين بوصفه فيض من الكرنفالية والترفيه carnivalesque(3).

العلاقة الأساسية بين المهيمن والضحية هي بؤرة تحليل بوروز للسلطة والنظام الاجتماعي. عندما يصبح الإنسان مدمنا، فإنه ينتسب إلى العالم الموبوء أخلاقيا وعقليا . انه ينكص إلى أدنى أشكال الحياة ( حياة الحشرات في الغالب). النشوة الجنسية للرجل المشنوق جنبا إلى جنب مع المسخ والتحولات المهينة من الآدمية إلى غير الآدمية هي أهم الأفكار التي يكررها بوروز لتوضيح أسطورته عن الإدمان.

تعزز الانتقادات الموجهة لمؤسسات السيطرة الاجتماعية, أيضا بدافع الطبيب المجنون ، صورة نمطية اقترضت من الرسوم الكرتونية وأفلام الصور المتحركة وغيرها من الأشكال الفنية المعبرة عن الثقافة الشعبية : الدكتور بروبيك ” طبيب إجهاض وانتهازي غير مرغوب فيه” ، والدكتور فنغرز شافر ” نكته العمليات الجراحية في الدماغ” ، وخصوصا الدكتور بنوي ، مدير ( مركز الأرض الحرة للتأهيل ) .”هؤلاء الأطباء يسعون إلى السيطرة المطلقة والتلاعب بالسلوك الإنساني” .

هدف هؤلاء الأعلى هو ” التدمير العصبي الذي لا رجعة فيه” و” إفساد الأخلاق الشامل ” . وهم ويوظفون في سبيل تقنية غسل الدماغ ، والمخدرات، وجميع أصناف الإذلال للوصول إلى الطاعة العمياء.

تلعب الأحزاب السياسية أدواراً مختلفة في هذه المعركة بين قوى الخير والشر ، ومن بين الأحزاب الأربعة في انترزون ، يبدو حزب (Factualist) الوحيد الذي يحاول تقويض سياسة القهر والانحطاط من خلال التحكم في جميع في مناحي الحياة . ليس من الصدفة أن يظهر واحد من أعضاء الحزب ، وليام لي [بوروز]؟ , في نوفا اكبرس بوصفه مؤلف رواية (الغذاء العاري) : الغرض من كتاباتي هو كشف واعتقال مجرمي نوفا. في( الغداء العاري ) , و(الآلة اللينة) و (نوفا اكسبرس ) كشفت من هم . وماذا يفعلون . وماذا سيفعلون إذا لم يتم القبض عليهم . و “بمساعدتكم نستطيع احتلال مسرح الواقع واستعادة السيطرة على الكون من الخوف والموت والاحتكار ، (توقيع) المفتش جي .لي. شرطة نوفا “.

ومن شأن التأويل الاختزالي أن يقودنا إلى النظر إلي ( بيل لي) بوصفه بوروز- الأنا ، واضعين بعين الاعتبار فعل الكتابة بوصفه نشاط الخلاص ، وبالتالي النظر إلى الكاتب بوصفه بطلا ثقافياً . كل ما في الرواية عصي على التبسيط والتسطيح . (الغذاء العاري) ليست مجموعة عشوائية من الأشكال الشعبية. إن توظيفها لتقنيات الرسوم ، والأفلام الرخيصة ، والسينما ، والمواد الإباحية وغيرها من أشكال الثقافة الجماهيرية ، لم يكن من قبيل المحاكاة الساخرة وإنما على طريقة ” وداوني بالتي كانت هي الداء ” homeopathically (4). انه يكيف خطابات الثقافة الشعبية والجماهيرية لتخريب استراتيجيات السلطة والسيطرة التي توظفها.

تكمن المفارقة في قلب (الغذاء العاري) في حقيقة أن ما يبدو أنه بديل لـ ‘اختلال الشخصيات العقلي وفعل كشف علاقات الهيمنة من خلال الكتابة، تضيق دائرته بواسطة أداة الكتابة نفسها, أي اللغة. كلمة وصورة فيروس “الشر” لا يمكن أن توفر أي نوع من الخلاص لأن اللغة كثيرا ما ينظر إليها في هذه الرواية باعتبارها التهديد الرئيسي للهوية الفردية والإرادة.

إن بديل بوروز للغة التقليدية هو الملصقات اللفظية التجميعية : قوائم الجرد ، و البيانات المصورة والفهارس ، والمظهر الخارجي . الأنماط اللفظية التي تكتسب شرعيتها من التراكم المادي.

في منتصف الرواية يعبر صوت مجهول بشكل جيد للغاية عن يمكن أن يعتبر نظرية اللغة في رواية (الغذاء العاري): ” لماذا كنت استثنائيا في عدم التعامل مع الكلمة الحية ؟ الكلمة لا يمكن التعبير عنها مباشرة، وربما يمكن الإشارة إليها بوساطة فسيفساء من تجاور ما يشبه المقالات أو البنود المتروكة في درج الفندق، يمكن التعرف عليها من الإنكار والغياب “. وعلى غرار التخيلات الوهمية للشخص المصاب بالفصام ، نجد إن الخطاب في (الغذاء العاري) يتبع الإزاحة الكنائية للدال بدلا من التكثيف الدلالي المجازي .

النمط التنظيمي للرواية هو سمة أخرى مميزة لأسلوب بوروز الانشقاقي “schismatic style”

المادة التحليلية في الجزء الأول من محاكمة (الغذاء العاري) و الملحق ( من المجلة البريطانية للإدمان) يتناقض مع التداعيات الحرة للأحلام والخيالات والاختزال اللفظي التي تشكل الجزء الأكبر من الرواية. في هذه المقاطع المركزية يحقق بوروز النبرة والبصيرة النبوية التي تميز السرد البارانووي ، لكن رؤيته في نهاية المطاف تدميرية مروعة بطبيعتها ، وتكشف حقيقة هلوسة الولايات المتحدة الأمريكية : ) العفونة الأميركية الأساسية) التي كشفت من خلال وسائل الإعلام , و مخاطر البيروقراطية ، التي تشبه السرطان أو الفيروسات .

يمكن أن نطلق على رواية (قوس قزح الجاذبية) “موسوعة البارانويا “. ليست هناك حاجة إلى العودة إلى التحليل النفسي عند مناقشة الذهان في رواية بينشون , ذلك أن الرواية نفسها تحتوي على تعريفه. كما أنها تحتوي على عدد لا يحصى من الاستطرادات حول أعراض البارانويا ، و النظم البارانووية في التاريخ” ، وحتى “أمثال للمصابين بالبارانويا “. تتمثل نظريات المؤامرة من خلال التلميحات إلى ” الثابت الراسخ “، و” تآمر بوخارين “، و” مؤامرة الأب “، و” مؤامرة المبرقة “، و” مؤامرة الماسونية “، و” الاتفاقيات الاحتكارية الكيميائية “، و” اتفاقيات الصواريخ “، و” والاتفاقيات الدولية الاحتكارية لمصابيح الضوء” و ” اتفاقيات اللحوم الاحتكارية” .

تدل بنية الرواية على تزايد القلق من البارانويا . في واحدة من المقاطع الأخيرة نواجه تعريفا توضيحا لهذه الظاهرة: تعني البارانويا “البداية ، الحافة الأمامية ، لاكتشاف أن كل شيء مرتبط”. ليس من قبيل الـ”صدفة” أن هذا التعريف قد جاء متأخرا جدا ، إذ أن دوره في الحقيقة تأكيد ما قد اكتشفه القارئ بالفعل أثناء القراءة . ومع ذلك ، من الصعب دائما تحديد حدود الصدفة والسببية في العمل الذي يتعمد تدميرهما. في واقع الأمر ، يمكن للأحداث في الرواية أن تفسر سببيا، حيث (التاريخ مؤامرة فعلية ضخمة) أو من قبيل الصدفة (التاريخ بوصفه نتيجة للمصادفة).

كلا الموقفين قد تم اختباره بالفعل من قبل بينشون نفسه في روايته الشهيرة v. حيث جسد (استنسل وبيني )على التوالي البحث اليائس عن الأنماط , وإدراك أن كل شيء هو مجرد حادث. يؤيد بينشون كلا من هذه المفاهيم في اثنين من مجالات الرواية : النظام (حيث كل شيء ثابت) والمنطقة (حيث كل شيء يطفو على غير هدى). والاحتمالان واردان ضمن نطاق البارانويا (وهذا شيء يمكن أن يعتبر مفارقيا مساهمة بينشون في تأسيس التحليل النفسي). وبقطع النظر عن الشعور العام من البارانويا باعتبارها مصطلح غير ملحوظ يشير إلى الترابط الواسع الانتشار ، فقد حصلنا على تعريف لاثنين من الأنواع الأخرى :

“البارانويا الخلاقة” بوصفها التطور المنهجي ل” نظام-نحن ” بدلا من “نظام- هم ” و ” مضاد البارانويا” والذي يعني أن لا شيء “متصل بأي شيء ، وهي حالة يمكن أن يحملها الكثيرون منا لفترة طويلة “.

تحمل أهم العناصر في (قوس قزح الجاذبية ) نقيضها؛ كل تعريف يحمل نقيضه، تعرض الرواية إجابتين بديلتين ومتناقضتين لكل سؤال. يعيد بينشون إلى الأذهان ” الكتاب المثالي ” لطلون بورخيس ، حيث ” أن كل كتاب لا يحتوي على كتابه النقيض يعتبر غير مكتمل” . يضع بينشون جميع الأصناف الخيالية من المتناقضات التي يمكن تصورها جنبا إلى جنب ,سواء تعلق الأمر بالمؤامرة ،والتشخيص, والصور. وفي الواقع، فإن عنوان الرواية نفسه يكشف طبيعة فصام الرواية: قوس قزح والجاذبية هما ظاهرتان متناقضتان.

الاستعارة ( إبراز التماثلات والاختلافات ) هي السمة الرئيسية البلاغية التي تمنحنا مفتاح فهم أسلوب بينشون .

إن مواجهة انهيار ” سلسلة الدلالة ” وفيض الدلالات، هي من سمات ثقافة ما بعد الحداثة، والفنان مثل المصاب بجنون العظمة يحتاج إلى إبراز المعنى. وتبعا لذلك ، فإن إنتاج البارانويا للمعنى البارانووي هي محاولات ترمي إلى جعل هذا المعنى قوة تعويضية في عالم أصبح فيه التمثيل في حد ذاته و الصور الزائفة مجالا جديدا للتسليع من قبل الرأسمالية متعددة الجنسيات. ومع ذلك ، هذه ليست ظاهرة جديدة. ما هو جدير بالملاحظة أنه قد تم تسريعها في فترة ما بعد الحداثة في الولايات المتحدة. و في الواقع ، فإن المكانة المتميزة التي يبدو أن البارانويا تحظى بها في العقل الأميركي قوية الجذور تاريخيا في المخيلة التطهرية البروتستانتية المتزمتة . يدرك بينشون هذه الحقيقة ، ويوفر داخل الرواية شبكة للاتصالات (واحدة من بين أكثر من مئات) بين نظرية المؤامرة واللاهوت البروتستانتي التطهري .

لقد تتبع سكوت ساندرز آثار هذه المصادر ، و لخص التناظرات بين بينشون والتطهرية البروتستانتية المتزمتة على النحو التالي : البارانويا = الإيمان ؛ المؤامرة الكونية = خطة الله ؛ الجاذبية = إرادة الله ؛ العضوية في شركة = الانتخابات ؛ الاستبعاد من مؤامرة = الادعاء ؛ تعدد الأنماط السردية = أنماط التصنيف ؛ التحكم عن بعد = الكياسة ؛ ثنائية الرؤية = الإيمان والإلحاد ؛ انحطاط التاريخ = فساد الإنسان ؛ المرجعية الذاتية البارانووية = الخلاص الشخصي ، الصفر = يوم القيامة .وفقا للنقاط التي أبداها ساندرز ، فإن العقل البروتستانتي لا يزال حيا في أشكال جديدة.

تبحث أمريكا الشمالية الحداثية عن فرضيات جديدة يمكن أن تفسر الحياة , بوصفها نتاج جهاز تحكم عن بعد ، واضعا الفرد في إطار مؤامرة نتيجتها النهائية بعيدة المنال.

توفر البارانويا بديلا صالحا لجعل الخلق مفهوما مرة أخرى. يرى العقل البارانووي العالم منظما من قبل شخصيات الظلام التي تتمتع بسلطات تقارب كلية العلم والوجود . وهي تحل محل الخطة الإلهية مع الشيطان (ساندرز :139-140).

وبتتبع الديناميات المذكورة أعلاه من الثنائية المتناقضة ، يصور الكتاب بطريقة مسرحية مجمعين وجمعيتين خاصين بالصاروخ والسيدة سلوثروب, الشخصية الرئيسية في العمل .

بنفس الطريقة يجمع الكتاب ويفكك بينما نحاول قراءته. كما أشار تانر إلى أن “القراءة في حد ذاتها تصبح نشاطا بارانووياً ” يحبط القارئ باستمرار . ذلك انه يخلق لديه شعور بأنه لن يحقق أبدا قراءة وحدوية متماسكة ، وانه لن يكون قادرا أبدا على تأطير الكتاب .

وأخيرا فإن (قوس قزح الجاذبية) تدعو إلى وتحرم التأويل على حد سواء. و تماما مثل الشخصيات , نحن نتقلب بين النظام والمنطقة ، البارانويا والبارانويا المضادة .

تحذر الرواية من استحالة اختزالها في معنى واحد. وبالتالي تحتاج القراءة إلى البارانويا والبارانويا المضادة ؛ تسجيل النظام والفوضى ، الحتمية وعدم التعيين , الحبكة والفرصة.

يوضح( قوس قزح الجاذبية) كيف أن هذه السرديات التي تتظاهر بتجميع الشظايا والصور تزداد صعوبة بل وتصبح ضربا من المستحيل في النهاية. إننا دائما محرومون من أي معنى , ما لم نتمكن من بقية النص و الوصول إلى التوكيد الجازم الذي يعطيه أي سرد تام.

يؤطر المجاز عن الكون بالمسرح الرواية. تبدأ الأحداث مع إجلاء لندن خلال الحرب العالمية الثانية تحت تهديد الصواريخ الألمانية، وينتهي في المسرح حيث الجمهور ـ الذي يشملنا، نحن القراء ـ يرى نفسه تحت تهديد آخر قذيفة على حافة الانفجار. الخاتمة مفتوحة النهاية. في الرواية الغموض يقاوم الإغلاق ، وبالتالي ينشط الميل البارانووي لدى القارئ للبحث عن “ترتيبات أخرى وراء تلك المعلنة ” ، في حين أنها ترفض حتمية استجابته .

إن البارانويا كما يشير فران كيرمود ، هي (النشاط التفسيري في المرض) . وبما أن الرواية تبرر التفكير البارانووي على جميع المستويات (الشخصيات ، و البناء ، و الاستجابة) ، فإنها قد نجحت في (عدم إمراض ) (البنية البارانووية في الفكر ).

يناضل الأسلوب البارانووي في كل من الغداء العاري و(قوس قزح الجاذبية) ضد أعباء النظام المغلق الثقيلة . إلا أن انتهاكاتهما تتجاوز التحدي لتصيب المؤسسة الأدبية. على هذا النحو فإن العالم مؤامرة لا بد من كشفها وتدميرها. وعلى المستوى السطحي ، فإن الناشط الحزبي عند بوروز (أو شرطة نوفا فيما بعد) والقوة المضادة عند بينشون هما الوكالات التخريبية التي ستقوض المؤامرات داخل الرواية.

وعلى مستوى أعمق، فإن (الغداء العاري ) و(قوس قزح الجاذبية) تسعى إلى التراجع عن ما بعد الحداثة باستخدام أساليب ما بعد الحداثة نفسها homeopathically(كيلنر: 59). لا تقدم هاتان الروايتان مجرد مثال آخر على فصام ما بعد الحداثة : أنهما توظفان الفصام والبارانويا من أجل كشف وتخطي المنطق الثقافي للمجتمع الأمريكي المعاصر.

الهوامش:

(1)ازوارparaphrenia هو يشمل التطور التدريجي للأفكار التخيلية التي تزداد في إستفحالها، وللتخيلات والتأخر البطيء المستمر للشخصية في غياب أي سبب عضوي معروف. والاصطلاح مرادف لإنفصام الشخصية الزوراني الغادر. (المترجمة).

(2)Latah:حالة استجابة لمنعكس الإجفال. يسقط الضحية في حالة ذهنية من الذهول والغيبوبة الجزئية يقلد أقوال وأفعال من حوله بصورة لا إرادية وغالبا ما يستجيب للأوامر الملقاة إليه دون تفكير. توجد الحالة في ثقافات بعينها لذلك فإنها غالبا ما تعتبر “متلازمة ثقافة معينة” (المترجمة).

(3)carnivalesque:مصطلح صكه الناقد الروسي ميخائيل باختين ليشير إلى الصيغة الأدبية التي تهدم وتحرر افتراضيات النمط السائد بوساطة السخرية والفوضى . (المترجمة).

(4)”homeopathically: نظام معالجة للأمراض يرتكز على إعطاء المريض جرعات صغيرة من مادة إذا أعطيت بكمية كبيرة للأصحاء أحدثت أعراضا مشابهة للمرض ذاته. (المترجمة).

*المقال فصل من كتاب جماليات ما وراء القص: دراسات في رواية ما بعد الحداثة، مجموعة مؤلفين. ترجمة أماني أبو رحمة ، دار نينوى للنشر والتوزيع . دمشق . سوريا 2010.

اماني أبو رحمة

ناقدة فلسطينية من غزة

http://www.alrowaee.com/article.php?id=792

الروائي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى