صفحات العالم

نظرية المؤامرة وتمددها إلى الحراك العربي

 

حسن شامي

قد يكون صحيحاً أن «نظرية المؤامرة» تحظى في منطقة الشرق الأوسط بنسبة انتشار ورواج تفوق متوسط مثل هذه النسبة في مناطق أخرى في العالم. وقد يكون صحيحاً أيضاً أنها وشبيهاتها تزدهر، في البلدان المتطورة ولاعتبارات مختلفة، في أوساط اليمين المتطرف وأوساط المنـــاهضين للامــبريالية. ويستند أصحابها إلى إرث طويل من المناورات والمكائد والألاعيب الخفية التي حفلت بها ســـنوات الحرب الباردة، ناهيك عن التي حفل بها الـــقرن التاســع عشر و»ألعابه الكبرى» في ظل سباق محموم بين الدول الاستعمارية لبسط السيطرة والنفوذ وتعزيزهما قدر المستطاع.

وتغمز النظرية هذه من قناة قناعة مفادها أن السياسة ترسم خطوطها العريضة، حتى في البلدان الديموقراطية الراعية لحرية التعبير والفصل بين السلطات، في غرف مغلقة تضع فيها القوى الوازنة والمؤثرة اقتصادياً وإعلامياً خطة العمل وتترك للجمهور قشوراً، تتيح له الاعتقاد بأنه شريك في صنع القرارات الكبرى بما في ذلك شن الحرب وخوضها.

لا يعدم أصحاب نظرية المؤامرة، في البلدان الديموقراطية الغربية خصوصاً، العثور على شواهد وحالات تسعفهم في تسويق اعتقادهم بوجود قوى ظل تعمل في الخفاء وتعد الخطط وتفرضها أو تفرض بكل الوسائل المتاحة لزوم اعتمادها. وقد تكون تجربة الغزو الأميركي ـ البريطاني للعراق عام 2003 أبرز هذه الشواهد من دون أن تكون الأولى والأخيرة.

لكن حظوظ انتشار فكرة المؤامرة في الغرب لا تستند فحسب إلى جاذبية كشف المستور، حتى عندما يكون المشروع قليل الستر وكثير الجهر، بل تنهل أيضاً وتخاطب عناصر مقيمة سوسيولوجياً ونفسياً في بيئات هذه المجتمعات. من ذلك انتشار الغفلية في المدن الكبرى والمخاطرة التي عززتها الفكرة الليبرالية وممارستها ما شكل خلفية وشروط نشأة الرواية البوليسية وانتشارها واكتساحها لميادين مؤثرة في صناعة الرأي والمخيلة العامين كالسينما والتلفزيون. هناك أيضاً تأثير أدبيات فلسفية كاملة راحت تعتبر أن ما يحسبه الناس حقائق ومدارات واقعهم ليس سوى السطح الذي يحجب آليات تعمل في الأعماق، وهو ما ينبغي الكشف عنه والخوض فيه. تحليل ما يعتمل تحت سطح التمثيلات والممارسات السائدة هو العنوان العريض لفلسفة الأعماق هذه التي تجلت في أعمال ثلاثة مفكرين كبار، تناولوا المسألة من زوايا معينة ووضعوها في منظار يخص كلاً منهم، بحيث بات من الصعب أن يتشكل ويتواصل فكر نقدي لا ينحدر بطريقة أو بأخرى من مرجعيتهم، وهم نيتشه وماركس وفرويد.

لا يمنع هذا من أن تولّد نظرية المؤامرة انطباعاً عاماً ومشتركاً مفاده أن قوى الظل والأيدي الخفية تتمتع بقدرات سحرية وعجائبية، وتستخدم كل الحيل العقلية لإخراج أرانب بيض من قبعات سود. لكن الانطباع المشترك والعريض هذا يحجب تباينات كبيرة تتعلق بشروط تسويق نظرية المؤامرة وتوفر حظوظ استقبالها وانتشارها. ففي منطقة الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى من العالم عرفت الانقلابات العسكرية وما يشابهها كأميركا اللاتينية قبل مدة غير بعيدة، تنمو فكرة المؤامرة على أرضية مختلفة.

الأكيد أن الطابع السلطاني الاستئثاري والاستملاكي لنظم السلطة في العالم العربي، وبينها الأنظمة الجمهورية بعد الاستقلال، أنشأ فكرة عن السياسة تجعلها، في ظل الاستبداد الفردي والفئوي، اختصاص نخبة تتحلق حول الزعيم أو الرئيس وتتصارع على الحظوة والتنفّذ من خلال التقرب من دائرة القرار التي يملكها «ولي النعم»، بحسب عبارة شائعة في العهد العثماني وعهد محدّث مصر محمد علي باشا وسلالته. في منظومة لا تعرف الفصل بين السلطة والدولة، تنشأ تقاليد تقوم على تفويض المسائل إلى أولي الأمر وفق آليات تختلف من بيئة اجتماعية إلى أخرى. ويعني هذا أن الفكرة الديموقراطية بوصفها صيغة مشاركة شعبية في تقرير المصير والوجهة لها تاريخ ومرشحة لأشكال ودرجات متفاوتة من التأقلم والرسوخ.

هناك بالطبع من يرى أن انتشار نظرية المؤامرة في منطقتنا يعود إلى عقلية تغذّت ولا تزال من ثقافة قائمة على الغيبيات، وعلى قاعدة ليس في الإمكان أفضل مما كان. إنهم الثقافويون. وإذا كان بعض هؤلاء يحمّلون نقدهم بعداً تعليمياً وتنويرياً شاملاً يعزز صفتهم النخبوية، فإن بعضهم الآخر يدحض نظرية المؤامرة وأصحابها بطريقة تفتقد إلى النزاهة، إذ تقلل من شأن الدسائس والخدع وتعميق النزاعات كوقائع تاريخية لا يستهان بنتائجها ومفاعيلها. والحق أن تاريخ المنطقة الحديث يعج بالمؤامرات التي مهدت للحقبة الكولونيالية. لا حاجة للتذكير بمذبحة الاسكندرية عام 1881 والتي مهدت لاحتلال مصر وسلسلة الخدائع الكبرى والوعود الكاذبة في الحرب الأولى وتفاهمات سايكس ـ بيكو وحريق القاهرة والعدوان الثلاثي ووعد بلفور…

والحال أن نظرية المؤامرة في ما يخص الانتفاضات العربية الحالية لا تقتصر على أوساط الممانعين أو المناهضين للسياسات الامبريالية. فقد تحدث عنها ونفخ في صورتها رؤساء متعاونون مع الغرب، كما كانت حال علي عبدالله صالح وحسني مبارك والقذافي. أما الرئيس السوري الذي يتحدث دائماً عن مؤامرة على سورية فهو بالطبع ينسب إلى تحالفه مع القوى الدولية المنافسة للغرب والقوى الإقليمية المناهضة، ما يسمح لمقولته ببعض الصدقية. ولكنْ يفوته أن ثمن الممانعة لا يتطلب بالضرورة تجديد الحكم السلطاني والاستئثاري وإرهاق المجتمع واستنزاف قواه وخنق تعبيراته وتطلعاته.

عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في تونس وانتقلت إلى مصر كان الترقب المحموم هو الغالب وليس كلام المؤامرة. الانعطافة الليبية وإصرار الأميركيين حتى آخر لحظة على أن يقود عمر سليمان المرحلة الانتقالية في مصر، وغض الطرف عن الحراك البحريني هي من العوامل التي أنتجت مناخاً ملائماً لمقولة المؤامرة. الخطير في هذه النظرية يكمن في قلة ثقتها بقدرة المجتمعات على ترجمة تطلعاتها، وفي المبالغة في تقدير حجم الدور الذي تلعبه دول كبرى وقوية. ويعني هذا أن نقد مقولة المؤامرة يكون بتغليب المقاربة العقلانية والتاريخية التي تحصرها في زاوية معينة فلا تستولي على كل زوايا الوعي ومستوياته.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى