صبحي حديديصفحات الثقافة

نعجة ما بعد الحداثة/ صبحي حديدي

 

 

في غمرة الضجيج والعجيج الذي اكتنف استفتاء اسكتلندا، حول البقاء ضمن التاج البريطاني أو الإستقلال عنه، استذكرت وسائل الإعلام البريطانية عدداً من كبار الأسكتلنديين الذين كانت لهم أيادٍ بيضاء في رفعة المملكة، وبالطبع، كان البروفيسور إيان ويلموت ـ راعي النعجة الشهيرة دوللي، التي كانت ثمرة أوّل استنساخ من هذا الطراز ـ في عداد هؤلاء الأفاضل.

وتلك واقعة جديرة بالتذكّر، حقاً، وربما كان من الخير استهلالها ليس من من بداياتها المفرحة، أواسط 1996، بل من نهاياتها المحزنة، مطلع 2003، حين أُعلن عن وفاة النعجة، بعد إصابتها بمرض عضال في الرئة. وكان متاحاً إبقاؤها على قيد الحياة سنوات أخرى في إسار المرض، كما ذكر معهد روزلين في إدنبره، لولا أنّ سيّدها والمسؤول الأوّل عن استنساخها، البروفيسور ويلموت، اتخذ قرار إنهاء حياتها عن طريق حقنة قاتلة.

بدا، للوهلة الأولى وكأنّ هذا الموت المبكّر (إذْ تعيش النعاج إلى عمر 21 سنة) يعطي مصداقية ملموسة للمعترضين على الاستنساخ، سواء نهض اعتراضهم على مسوّغات علمية أو انبثق من الحجة الأخلاقية الصرفة. غير أنّ إصابة المواشي بمرض عضال مثل التهاب الرئة لم يكن أمراً استثنائياً، وكان أيّ راعٍ، في أيّ ريف ـ ما قبل حداثي، حداثي، أو ما بعده… ـ سيفعل ما فعل ويلموت، أي سيختار فوراً ذبح الشاة المريضة بدل الإبقاء عليها وسط القطيع.

لكنّ دوللي كانت قد صنعت التاريخ، ساعة ولادتها، في جانب كبير منه هو العلوم، وفي فصل خطير وإشكالي هو الاستنساخ. رحيلها، تالياً، لم يمرّ دون تبعات، في ناظر الرافضين والقابلين على حدّ سواء، وكان أن نُبشت جميع ملفات تلك الولادة الفريدة للوقوف على بعض، لكي لا نقول معظم، الحقيقة. وفي نهاية الأمر، كيف يُنسى أنّ حدث استنساخ دوللي كاد أن يصبح، في ليلة وضحاها، المحطة الأعجب في تاريخ انتقال الحداثة الأوروبية إلى أطوار ما بعد الحداثة، ربما للمرّة الأولى منذ القرن التاسع عشر، حين أطلقت أوروبا مشروع الأنوار السائر يداً بيد مع المشروع الرأسمالي؟

كذلك لم يكن عجيباً أن نسمع مَن يهتف، بحماس تبشيري حارّ، أننا لا نعيش عصور ما بعد الحداثة، أو أحقاب ما بعد التصنيع، أو الأزمنة ما بعد الفوردية (نسبة إلي صانع السيارات الأمريكي الشهير)، أو حتى أطوار الرأسمالية المتأخرة (حسب تعبير ماركسيين من أمثال فردريك جيمسون)، وإنما نعيش «أزمنة دوللي»: ما قبل دوللي شيء، و ما بعد دوللي شيء آخر لا يشبه أي عصر سالف. وعلى صفحات «واشنطن بوست»، لم تتردد جيسيكا ماثيوز في تبشيرنا بأن العالم دخل طور «الوعي ما بعد الاستنساخي»، فكان أن أخجلت ردود أفعال أقلّ اندفاعاً، صدرت عن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وأخرى أكثر تمجيداً للإعجاز الإلهي، نطق بها البابا يوحنا بولس الثاني.

وفي جانب آخر هامّ، لم يكن من المبالغة القول إن أكثر الناس فزعاً واضطراباً وبلبلة في تلك «الأزمنة الدوللوية»، كان البروفيسور ويلموت نفسه، والفريق الذي سهر معه آناء الليل وأطراف النهار لإنتاج هذه النعجة المباركة، وجعلها تتقافز بحيوية أمام العدسات، فيبدو ثغاؤها أشدّ تذكيراً برهبة ما بعد الحداثة من توجّع المغنّي الجامايكي الشهير بوب مارلي. وبدل الغرق في مشاعر الفرح والفخار، كان الرجل يتابع بقلق أسئلة الاحتجاج والشكّ، والإمتعاض والإدانة، ثم يقرأ ما يقوله أساطين الإثارة حول الكارثة التي ستحلّ بالبشرية إذا ما سمحت التكنولوجيا الجديدة لديكتاتور مثل صدّام حسين أن يعيد استنساخ عشرات من توائمه، فيقوم هؤلاء بانتاج أسلحة الدمار الشامل، وغزو الكويت، وتكرار «عاصفة الصحراء» كلّ بدوره، وبمعدّل ربع قرن بين غزو وغزو مثلاً!

وهكذا، سرعان ما انتصرت الذاكرة القصيرة التي تنسى، وتتناسى، أنّ الكائن البشري اجتماعي أوّلاً وأخيراً، وأنه نتاج تداخل معقد للغاية بين ما تسميه اللغة العربية الطبع والتطبّع، وأنه، استطراداً، ليس مجرّد حصيلة ميكانيكية لجمع الطبع إلى التطبّع، واستخلاص الناتج على هيئة مخلوق حسابي محض. وإذا كانت عصور الحداثة الغربية قد أدخلت السلعة بوصفها قيمة، والعلم الغربي تكفّل بتطويرها إلى الحدود القصوى لانفجار التكنولوجيا والمعلومات، فإنّ عصور ما بعد الحداثة الغربية تحار في ما ستفعله بالإنسان ـ القيمة، الآن وقد تحتّم أن ينقلب إلى سلعة أو استعارة لها وكناية عنها، قابلة للنسخ والاستنساخ!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى