رشا عمرانصفحات الناس

نعم أنا جبانة/ رشا عمران

 

 

خرجت من سورية منذ خمس سنوات. لم أتحدث كثيراً عن ظروف خروجي، ليس فقط لأنها غير مهمة لأحد، فظروف خروجي متعلقة بآخرين غيري، ليس من حقي الحديث عنها، لا سابقاً ولا الآن، وإنما أيضاً لأنني خرجت عبر الحدود السورية بشكل طبيعي، بينما كان آخرون ممنوعين من السفر، أو معرّضين للاعتقال في حال خروجهم. ما قلته عن بعض أسباب خروجي، في مقابلات قليلة أجريت معي، عرّضني (للمحاكمة الثورية) والتخوين، والاتهام بتبييض صفحة النظام، (تبييض صفحة النظام تهمة مستجدّة على الساحة الثورية السورية لا تختلف كثيراً عن تهمة وهن نفسية الأمة). لا بأس، لست الوحيدة التي تعرّضت لاتهاماتٍ مشابهة، كل من خرج قليلاً عن المسار تم الفتك به، وبسكاكين متنوعة الإيديولوجيات.

أعود إلى أسباب خروجي من سورية، وما يخص منها هواجسي الشخصية. لم أكن يوما بطلة، ولم أدّع يوماً النضال في سبيل أي شيء، كنت، وما زلت، أرى أن الحياة يجب أن تُعاش بكل ما فيها، وأن لا شيء في العالم يستحق أن يفقد المرء حياته لأجله. لا شيء إطلاقاً، حتى الأوطان والحرية وكل الأفكار الكبرى. أعرف أن بعضكم سيتهمني الآن بالتخاذل، لا مشكلة، يمكنكم أن تقولوا عني ما تشاؤون. أنا لست شجاعة، وأحب حياتي وحياة من أحبهم، ولا أريد أن أعرّضهم للخطر. خرجت من سورية لأنني جبانة، لأنني خفت على نفسي، وعلى آخرين أحبهم، هل كل الذين خرجوا، بمن فيهم أصحاب المحاكمات الثورية، خرجوا لأنهم شجعان؟ ألم يخرجوا لأنهم يريدون مكاناً آمنا للعيش لهم ولأبنائهم؟ بالنسبة لي، الشجاعة هي في قرار البقاء هناك، خصوصاً في المدن المعرّضة للخطر والقهر اليومي، ودمشق العاصمة منها حتماً. ولكن، هل يحق لأحد مطالبة من لديه أطفال أن يكون شجاعاً ويصمد وسط هذا الخوف اليومي؟ من حق الأطفال العيش في مكان آمن، وليس ذنبهم، ولا ذنب أسرهم، أن ثمة أطفالاً آخرين في مناطق مشتعلة في سورية، وفي المخيمات، يعيشون وسط أشد الظروف الإنسانية سوءاً وذلاً. لا يحمل السوريون الذين خرجوا بأبنائهم بحثاً عن الأمان ذنب هؤلاء، بل يتحمله نظامٌ عالمي فاجر يشارك يومياً في تعميق مأساة الأطفال خصوصاً، عبر ضخ وقود يومية لإبقاء الحرب مشتعلة، أو عبر الصمت عن كل ما يحصل من جرائم.

خرجت إذاً لأنني جبانة، ولا أحتمل أن يتم الضغط على حياتي وحياة من أحب تحت أي سبب. هل ندمت على رضوخي للخوف؟ نعم، يكاد الندم أحياناً أن يفقدني أصابعي، ثم أتخيّل حياتي لو أنني بقيت هناك، وماذا كان سيحدث فيها، فأتذكّر جبني التاريخي، وبأنني لو بقيتُ ربما كنت سأفعل ما أخالف به قناعاتي، خوفاً على نفسي، أو ربما كنت سأصبح من الفئة الصامتة، حيث سيتهمني أيضاً ثوريو المنافي بالتواطؤ مع جرائم النظام، والقالب جاهزٌ حتما، فأنا أنتمي إلى (الطائفة الكريمة)، وهو سبب أساسي لكل الاتهامات التي ألصقتها بي محاكم تفتيش النظام والثورة معاً.

أعيش، حالياً، حياتي في عاصمة عربية، لم أفكّر باللجوء الأوروبي، فيتهمني أحد باستثمار الثورة. لدي القليل من الأصدقاء الرائعين، ولدي وقت طويل جداً للكتابة والقراءة وسماع الموسيقى ومتابعة أفلام السينما. يضيع الكثير منه في ملاحقة معارك “فيسبوك”، وقراءة سيل من التهم، يوجهها بعض ثوريي المنفى، لمن اختار أن يتابع حياته في سورية، ولا يغادرها، على الرغم من الفرص المتاحة له. وأتابع الشتائم التي يكيلها بعض ثوريي الداخل الديموقراطيين لمن وجد له مكاناً للعيش خارج سورية. وللتوضيح، هذا الفيض من الشتائم والاتهامات يبدأه مثقفون ومبدعون بحق زملاء لهم، ساحبين خلفهم مجموعاتٍ تتناقل التهم، وتضيف إليها ما تقدر عليه، من دون أن تعرف أي شيء عن شخصية المتهم وتاريخه ووضعه.

أيضاً أعود إلى ما قلته مرات عديدة: أنا جبانة. أعترف، لكنني قويةٌ، بما يكفي لأقول إنني لن أعود إلى العيش تحت سقف وطن الأسد، ولن أعود إلى العيش تحت سقف أمراء الطوائف والحرب. أنا جبانة، لأنني خرجت من سورية، لكنني قويةٌ بما يكفي للدفاع عن حقي وحق غيري بخيارات حياته.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى