صفحات الناسغالية شاهين

نعم كنت خائفة/ غالية شاهين

 

 

ازدحمت في ذاكرتي وجوه من أحببت؛ وجه أبي الذي كساه الحزن العميق الممزوج بالخوف الحنون على من تبقى منا، وآخر ملامح رأيتها على وجه أخي، في تلك اللحظة الهاربة من العمر، حين كان ممدداً في تابوت فُتح ثوانٍ فقط، كانت كفيلة بأن تحمّلنا، ما حيينا، ألمه في لحظاته الأخيرة، بعد أن اخترقت جسده رصاصتهم الخرقاء، وجه زوجي المبتسم، لأنه خرج حياً من معتقل معتم وقاس، بملامح فارغة نحيلة، تقول بوجع ما مر به هناك، وجه أمي الشاحب والمتوسل أن نبقى أحياء، وجوه أصدقائي التي لونتها الخيبة بالرعب مما هو قادم. وجهي أنا عندما نظرت فجأة في المرآة، لأكتشف بجرأة لم أعهدها من قبل، أنني ببساطة، كنت خائفة.

كان القرار قراراً سريعاً، فَلم يكن أمامي وقت كثير للتفكير. أودعت كل تلك الوجوه في حقيبة باتت ثقيلة، ولملمت بعضاً مني من على رفوف مكتبتي، وأدراج خزائني، ووضعتها في حقيبة. حملت مخدتي، خوفاً من أن أنسى أحلامي المحشوة فيها، ووضعتها في حقيبة أخرى.

قررت الهروب. أعلم أنها الكلمة المناسبة بلا مواربة. والتي قد يزيد عليها بعضهم لتصبح خذلان الرفاق والثورة، أو قد يقسو بعضهم أكثر، فيسميها الخيانة.

على مدى ثلاث سنوات من عمر ثورتنا، كنت أقنع بعض الناجين من الاعتقال المتكرر، أو التعذيب الشديد، وخصوصاً بعد تكرار حالات الموت تحت التعذيب، بضرورة مغادرة البلاد. وكنت أصر على أن وجودهم أحياء، حتى ولو في الخارج، أهم وأثمن من موتهم في المعتقل. وأن لبعضهم دوراً كبيراً يمكن أن يقوموا به من الخارج، من دون أن نتعرض لخسارتهم.

أما أنا، وحين اقترب مني خطر الاعتقال، لم أستطع أن أبرر لنفسي الهرب، لكنني كنت خائفة.

لم أدّع، يوماً، أنني خرجت، لأنني أستطيع أن أقدم للثورة من الخارج أكثر مما كنت أحاول تقديمه، وأنا في سورية، ولم أدع أن حياتي كانت ذات أهمية أكثر من ثورتي. كل ما فعلته أنني خرجت مكسورة، وصمتّ.

لم أكن مختلفة عن عموم البشر؛ كنت قادرة على الفرح، عند تحطم كل تمثال للطاغية، وقادرة على البكاء أمام مشاهد المظاهرات الكبيرة في داريا ودرعا وحمص، كما كنت قادرة على الرقص مع أطفال المخيمات، لأزيح عن أكتافهم بعضاً من ذاكرتهم القاسية، وكنت قادرة على المخاطرة برفع صوتي والدفاع عن ثورتي. لكنني كذلك لم أكن عصية على الخوف.

ما زلت أحمل معي رهاب المطارات والحدود، وفي كل إقلاع طائرة، حتى وإن كانت من مطار أوروبي إلى آخر، أعود لأحس بأنني الآن، الآن فقط حلقت بعيداً عن كل هذا الدمار، وكأنني خارجة لتوي من كارثة.

اليوم، يحمل السوريون خوفهم معهم إلى كل مكان يقصدونه، يخبئونه تحت تجاعيد وجوههم عند نقاط التفتيش، يحاولون خلعه بعد قطع الحدود، لكنهم يكتشفون أنه عالق في أرواحهم. يصلون إلى أوروبا في رحلاتٍ، يمكن وصف بعضها بالمرعبة، بكل ما تحمله الكلمة، لكن خوفهم ينجو معهم من المغامرة، ليرافقهم حتى في بداياتهم الجديدة.

ربما هو الخوف المعشش فينا، منذ أربعين سنة، ربما هو الخوف من عدم القدرة على الصمود تحت يدي السجان، ربما هو الخوف من الموت بتلك الطريقة التي لم أستطع تخيل لحظاتها الأخيرة، حتى الآن، ولم أستوعب معنى اسمه “الموت تحت التعذيب”، ربما هو الخوف من ألا تحمل روح أبي فكرة اعتقالي، وألا يتحمل قلب أمي جرحاً عميقاً آخر بعد أخي. ولربما هو الخوف على أحلامي وحياتي. كل ما أعرفه، وأعترف به دائماً، أنني فقط كنت خائفة.

العربي الجديد

نعيد نشر هذا المقال بمناسبة فوزه بجائزة سمير قصير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى