صفحات العالم

نفق، طائفيّة، لَبننة، ووعظ منتهي الصلاحيّة


الضوء في آخر النفق

نحن محكومون بالأمل، قال سعد الله ونّوس مصيباً.

نحن مجبرون على أن نرى ضوءاً في آخر النفق، وإن غاب فعلينا أن نضيء نحنُ النفق كلّه. نكاد نفشل أحياناً في الهرب من تلك الرؤية اليقينيّة بأن هذه البشريّة الحمقاء ذاهبةٌ إلى الجحيم بخطىً واثقة ومع سبق الإصرار والترصّد. قد يحدث هذا، بل من المرجح ربما أن يحدث. لكن مقاومة حدوثه ورفض اﻻستسلام ليقين حتميّته هو طريقنا الأوحد، فالموت ليس في الجحيم، بل عندما نستسلم للقناعة بأن ﻻ مفرّ من الجحيم. الأمل مقاومة!

انتهى زمن الوعظ

ليس هذا البلد بحاجةٍ إلى آباء، أكان هؤﻻء الآباء روحيين أو روحانيين أو من أي نوع آخر، بل أنه بحاجة إلى أبناءٍ بنّائين متساويين وأحرار (وبنائين أحرار هنا ﻻ تعني ماسونيين)، ذوو معرفة واطلاع ووعي وحس نقدي ﻻ يبايع أحداً، بل يمنح الثقة مشروطة باستحقاقها.

ليست الديمقراطيّة ورقة اقتراع فقط، فما أسهل استبدال مسيرات التأييد بصناديق هتّافة. الديمقراطية هي حق الجميع، دون استثناء أو تمييز، في اتخاذ القرار الوطني وصوغ خطّة الطريق نحو المستقبل. هذا الحق يتطلّب النضال لأجله والتمسّك به والعمل على تنمية الذات والمجتمع كي يستخدم على أفضل وجه.

ليس المرغوب اليوم هو “قائد رمز واستثنائي وعظيم” ناطقٌ باسم جماهيرٍ صامتة إلا للتصفيق، يُقرر ما يشاء وما على الشعب إﻻ التأييد، بل نحن بحاجةٍ إلى منفّذ عملي للإرادة الشعبية المُعبّر عنها بالسبل الديمقراطية عن طريق مؤسسات مدنيّة تعمل كآليات إدارة متكاملة.

لسنا إطلاقاً بحاجة لأبواق تصرخ بعظَمة هذا الجزء من الشعب إن أيّد، وتزعق باستحقاق ذاك الجزء للعفس بالأبواط إن عارض، بل نريد إعلاماً يكون سلطةً رابعة حرّة ومسؤولة، تكون عيننا الرقيبة وصوتنا العالي.

لقد مللنا الهتاف، مللنا التصفيق، مللنا صورتنا ككتلة رماديّة متجانسة. نريد أن نكون مواطنين ذوو حرّية وكرامة.. وصوت.

فكرة “سوريا المساواة والحرّية” هي السلاح ضد الطائفيّة

إن كانت الطائفية تهدد نسيج المجتمع السوري فعلاً فإن خطاباً مناهضاً للطائفية ظاهراً وطافح بالطائفية جوهراً ليس إﻻ مأسسة للمعضلة وليس حلاً، وﻻ ينتبه خطاب الدفاع الشرس عن السلطة عندما يرسم صورة للمجتمع السوري وكأنه مجموعة طوائف مقتتلة على وشك اﻻنفجار وﻻ “ﻻجم” لها إﻻ القمع أنه بهذا الكلام، الطافح بالحقد والاحتقار للشعب السوري، يدين السلطة التي يدافع عنها، فالثقافة والإعلام والتربية والتعليم،ضمن كل الشؤون الوطنيّة الأخرى، بيدها الفولاذيّة منذ عقود، والوجود المزعوم لنزعة طائفية عامة يعني فشلها الساحق في بناء هويّة وطنية جمعيّة، وهو فشل محقق للأسف، لكنه لم يؤد إلى تطييف الشعب السوري.

لقد ترك تجفيف منابع الثقافة والفكر لصالح مشرب إيديولوجي وحيد قائم على التأييد المطلق آثاراً سلبيّة في المجتمع، وزاد قتل السياسة وتقليص حجم المساحة العامة إلى ما هو أهلي (دينياً أوعشائرياً) من حجم هذه الآثار السلبيّة، وخسرنا بالتالي عقوداً دون نشاطٍ معرفي وفكري تراكمي يبني الهوية الوطنية المدنيّة الجامعة بعيداً عن الجدران الأهلية، ورغم كلّ هذه العوامل لم ننقض لنذبح بعضنا البعض في حرب أهليّة، على عكس ما يريد هؤﻻء ويبدو وكأنهم يطالبون في خطابهم “المناهض للطائفيّة”.

لا تسمح الأوضاع لنا أن نزعم أنه ﻻ توجد أسباب للقلق، بل أن القلق وأسبابه موجودة، ومراقبة الأحداث وإدانة كل النزعات التمييزية أياً كان نوعها هو واجب إنساني ووطني. إن استهداف أي إنسان بسبب انتمائه الديني أو الطائفي أو الإثني هو كاستهداف الإنسانيّة جمعاء، وهو عمل مرفوض ومُحارب دون أي تبرير أو تفهّم من أي نوع. أيّ جريمة حدثت في خضم الاحتجاجات تستوجب، إن ثبتت، الإدانة والرفض والنبذ، مثلما يستوجب ذلك خطاب بعض الموتورين الذين ﻻ يعرفون الحديث إﻻ بالأسلوب الطائفي وﻻ يمثلون إﻻ أحقادهم الجاهليّة، لكن محاولة وصم حركة احتجاجية شعبية بالطائفية كتبرير للعنف ضدها هو عمل يفتقر إلى أدنى حس أخلاقي ووعي سياسي، عدا عن أنه يسيء إلى المجتمع السوري ككل.

في الدولة المدنية الديمقراطيّة التي يتساوى فيها جميع المواطنين والمواطنات دون أي تمييز من أي نوع الحلّ الجذري للمشكلة الطائفية. لكن اتخاذ هذا الموقف يعني الرغبة الفعليّة في القضاء على الشبح، وليس فقط استخدامه كحجّة مستهلكة ومهترئة ﻻتهام الآخر واستهدافه ونزع الشرعيّة عن خطابه وتبرير قمعه وإلغائه. المناداة بالدولة المدنية الديمقراطية هو مناهضة فعلية وفعّالة للطائفية، الشيء الآخر الذي يمارسه هؤﻻء فليسمّوه كما يشاؤون.

لَبننة

في جارنا الشقيق، والذي أتشرف بصداقة العديد من أبنائه، الكثير مما يجب أن نتجنّبه كسوريين، اليوم وغداً وبعد غد. أقصد شؤوناً كالتقسيم الطائفي في كانتونات محكومة بزعامات شعبويّة تبتز أولئك الذين وقعوا بين أياديها ولم يهاجروا (بعد) واستخدام الإعلام كوسيلة “إفحام” و “تخجيل” و “شتم”، بدل أن يكون مُساهماً فعالاً في الشأن العام. لكن أهم نقطة “لبنانيّة” علينا الهرب منها هي عدم الوقوع في فخّ تقسيم العالم والمجرّات والكون إلى فسطاطين: 8 آذار و14 آذار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى