صفحات العالم

نقاش في “العلوية السياسية”/ ماجد كيالي

 

لا أعرف من الذي اصطكّ مصطلح «العلوية السياسية»، لكن رواجه أكثر من السابق حصل بعد استخدامه من قبل المفكّر والأستاذ الجامعي صادق جلال العظم، أي بفضل المكانة المرموقة التي يحظى بها، علماً أنه استخدمه في شكل عابر ضمن مقابلة صحافية عن الأوضاع في سورية (راجع، زياد ماجد: عن «العلوية السياسية» و «المارونية السياسية» (30/4/2014). مع ذلك فإن هذا المصطلح يحتاج إلى تدقيق وتفحّص وتفسير، لأن رواجه لا يعني صحّته، أو مطابقته للواقع، بقدر ما أن ذلك يعكس سيادة حالة ثقافية قوامها التسرّع والاستسهال في إطلاق الشعارات والمصطلحات والتنميطات، وفقاً لانحيازات سياسية معيّنة، وتبعاً لمخيّلات اختزالية.

ثمة أسباب عدة لا تؤيد مسمى «علوية سياسية»، فهذا مصطلح ملتبس، يخلط أو لا يميّز بين النظام/السلطة، والطائفة، وهذين شيئين مختلفين، فيما التماهي بينهما شكلي، وظاهري. صحيح أن العائلة التي تقبض على السلطة، في أهم مفاصلها، هي علوية، بدلالة هويتها الطائفية، لكن عكس ذلك غير صحيح، أي أن الطائفة ليست في السلطة، بدلالة وجود هذه العائلة فيها. وقد لخّص ياسين الحاج صالح هذه الوضعية الخاصة بقوله: «عبارة نظام طائفي في سورية لا تعادل عبارة نظام علوي… ليس النظام بيد العلويين، العلويون بيد النظام… المنطلق في تحليل المسألة الطائفية ليس طائفة أياً تكن، ولا الطوائف، بل قضايا السلطة والثروة والامتياز». («الحوار المتمدن»، 11/2/2012)

وفي الواقع فإننا إزاء حالة من نظام استبدادي يقوم على احتكار السلطة، والسياسة، والموارد، دوناً عن أية جماعة اثنية أو طائفة دينية، ومن دون تمثل مصالح أي منها، أي أننا إزاء نظام لا دين ولا طائفة ولا ملة له، مثله في ذلك مثل أي سلطة استبدادية. لكن هذا الكلام لا يقلل من طائفيّة النظام، أو تلاعبه بالطوائف، واستثماره لهذه المسألة، في لعبة السلطة والهيمنة والشرعية. كما لا ينفي ذلك حقيقة أن القاعدة الاجتماعية الأكبر (بالمعنى النسبي) التي يستند إليها النظام، ويستخدمها ويستغلها، إنما تأتي من الطائفة العلوية، وذلك لأنها أكثر جماعة سورية استطاع القبض عليها، وصاغ ادراكاتها، وتحكّم بنمط معيشتها. علماً أن نسبة المعارضة في هذه الطائفة كانت أكثر من غيرها من المكونات السورية (باستثناء «السنّة»)، بما فيه المسيحيون والإسماعيليون والكرد…الخ، وعلماً أن غالبيتها محسوبة على الفئات الشعبية الفقيرة في سورية.

وعموماً فإن المشكلة هنا تكمن في أن النظام نجح في وضع الطائفة العلوية في زاوية اللاخيار، لا سيما ان المعارضة لم تقدم بخطاباتها وممارساتها ما يطمئنهم، وهذا يشمل الجماعات الأخرى التي باتت تتخوف من المستقبل، كالمسيحيين والكورد وغيرهم، وحتى ان ذلك يشمل جماعات «سنية».

ما ينفي وجود «علوية سياسية»، أيضاً، حقيقة أن لا صفة سياسية لأي جماعة سورية، طائفية أو اثنية، مهما كانت وضعيتها، لأننا إزاء نظام يحتكر السياسة ويحرّمها على غيره، حتى لو كان علوياً أو درزياً أو سنياً أو مسيحياً، أو عربياً أو كردياً، يمينياً أو يسارياً، برجوازياً أو بروليتارياً، متديناً او علمانياً، إذ أن وجود حياة سياسية في البلد المعني هو شرط بديهي لوجود جماعة سياسية، وهذا غير متوافر في سورية منذ عقود.

فوق ذلك، فإن الحديث عن «علوية سياسية» يفضي إلى وجود حالة سياسية مستقلة عن السلطة، وقادرة على الحياة من دونها، بوصفها حالة قائمة بذاتها، وهذا لا ينطبق على الحاالة المعنية، ناهيك أن النظام اشتغل على وأد أية محاولة للاستقلال عنه، أو ايجاد مراكز قوى أخرى داخل طائفته، حتى لو جاءت من أقرب المقرّبين.

بيد أن هذا الكلام لا يقلّل من محاولات النظام تخليق قاعدة صلبة له وسط هذه الطائفة، ولا يبرّر الاستجابة العالية التي لقيها عندها، وضمن ذلك لا يعفيها من مسؤوليتها عن استماتتها في الدفاع عن هذا النظام، أو سكوتها عن الوحشية التي يبديها في بطشه بسوريين آخرين. لكن المسألة تتعلق هنا بمحاولة تفهّم آليات التحكم والسيطرة، طوال عقود، بوسائل الترغيب والترهيب، وضمن ذلك عزل النظام هذه الطائفة، عن محيطها، بتمييزها في المعاملة والمكانة، بالتوظيف والتنفيع، وسعيه خلق حالة نفسية تربط مصيرها بمصيره. ويأتي ضمن ذلك حرصه على إيجاد مناطق سكن خاصة لها منعزلة، وشبه مغلقة، على غرار المناطق «العشوائية» المنتشرة في مداخل دمشق والتلال المحيطة بها، والتي تحظى بخدمات خاصة. ويذكر إياد العبدالله كل ذلك في بحث ممتاز له، بقوله: «العلويون قوم لا تجارة عندهم ولا زراعة، الطريق الوحيد المفتوح أمامهم هو الدولة لتدبير أمور حياتهم… يسكنون في عشوائيات تساهَل النظام في خصوصها كرشوة، حيث يشعر العلوي الذي «يؤمن مكاناً له في إحدى هذه العشوائيات، أن بيته في القلعة». («العلويون: رحلتهم إلى سورية…»، الجمهورية للدراسات، 25/5/2013)

ما ينبغي الانتباه إليه، أيضاً، أن النظام بديماغوجيته وترويجه لذاته كعلماني ويساري وقومي ومقاوم، وتسخيره جهاز الموظفين ومؤسسات التعليم والإعلام والجيش وأجهزة المخابرات، استطاع تخليق طبقة سياسية واسعة، وعابرة للطوائف، من الموالين، من المستفيدين من مثقفين ورجال دين ورجال أعمال، ومن كبار الموظفين. ولعل وجود هكذا طبقة هو ما يفسّر «صمود» النظام، واستمرار مؤسسات الدولة، وعدم القدرة على تنظيم عصيان مدني، واستمرار الحياة على طبيعتها في المناطق الخاضعة للنظام، وضمنها الأحياء «السنية» (ناهيك عن المسيحية وغيرها) في دمشق وحلب، وهذا واقع ينبغي عدم انكاره، أو تغطيته باعتبار أن النظام علوي، وأن الطائفة العلوية مع النظام (12 في المئة من السوريين)، كأنّ «السنّة» كتلة واحدة صماء ومع الثورة سلفاً وتلقائياً.

أما في شأن استهداف النظام لمناطق «السنّة» بالقتل والتدمير والتشريد، وأن الغالبية العظمى من الضحايا منهم، فذلك ليس لكونهم «سنّة»، وإنما لأنهم يشكلون حاضنة للثورة، ويقطنون في المناطق الثائرة عليه، أو التي لا تخضع لسيطرته، بدليل أنه لا يفعل ذلك في المناطق الأخرى، في مدن دمشق وحلب واللاذقية وطرطوس وإدلب وحماة.والخلاصة فإن مصطلح «العلوية السياسية»، وبعكس نيات بعض أصحابه، ينطوي على استجابة لدعاية النظام عن «سنّية» الثورة، وهي دعاية تستهدف صبغها بالطائفية والتديّن، ثم بالإرهاب، لنزع طابعها الوطني وتشويه صورتها وتقويض شرعيتها، باعتبارها ثورة سياسية من أجل الحرية والكرامة والمواطنة، ضد التسلط والاستبداد.

* كاتب سوري / فلسطيني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى