صفحات الرأي

نقد الثورات العربية وتجاوزها… نحو بقاء الاستبداد

 


حسام عيتاني

منذ بداية الانتفاضة السورية، بدأت تظهر في كتابات المؤيدين لنظام الحكم وفي احاديثهم التلفزيونية، نبرة شك في مقاصد الثورات العربية وفي ظروف انطلاقها، بعد أيام قليلة فقط من اسباغ الأشخاص ذاتهم صفات التقديس والتبجيل على شباب الثورات والحاق شهدائها بركاب شهداء المقاومة والممانعة الامجاد.

والحق ان النزعة التحريفية، إذا استخدمنا مصطلحات من القاموس الايديولوجي، ظهرت باكراً في سجالها مع الخط الثوري العربي العريض. ويعتبر مؤيدو الثورات انها، كلها ومن دون استثناء، ترمي الى اجتثاث انظمة فاسدة تمثل اقليات سياسية استبدت بالحكم من طريق العنف والقهر وتعميم الفساد فترات مديدة في الزمن وألحقت أضراراً بعضها غير قابل للتعويض أو الترميم في النسيج الاجتماعي وفي المستوى المعيشي والتعليمي وعلى صعيد المكانة الدولية.

ولا يقيم دعاة الرؤية هذه فرقاً بين السياسات الداخلية والخارجية للأنظمة المراد اسقاطها. فالأولى من الثانية وهذه من تلك. وتفضي الاثنتان الى تأبيد سلطات لا تعرف لتداول السلطة وللحوار والاعتراف بالآخر معنى. ويجعل منطق الثورات «الارتماء في أحضان الغرب واسرائيل» الذي كان يؤاخذ عليه نظام الرئيس المصري حسني مبارك، صنواً «للممانعة والانضواء في معسكر المقاومة» الذي يعلن انصار الرئيس السوري بشار الأسد أنه درة التاج في سياساته كلها. التساوي في النهجين الخارجيين، وفق المنطق المذكور، ناجم عن تشارك «نظام كامب ديفيد» و «نظام الممانعة» في الصدور عن باعث واحد، سلطوي واستبدادي، لا يرى في السياسة الخارجية سوى أداة لتمديد حكم المجموعة الممسكة بزمام السلطة والثروة في البلدين، مصر وسورية، وليس طريقاً لتحقيق المصالح الكبرى للدولة الوطنية، على ما يفترض ان يكون الحال.

أما نقاد الثورات العربية، من يسارها – إذا جاز التعبير – فيقولون بوقوف قوى الغرب وراء التحركات العربية الشعبية، خصوصاً في سورية لتحطيم الصخرة الواقفة في مجرى مشاريع تصفية الصراع العربي – الاسرائيلي لمصلحة اسرائيل ولفرض الهمينة الاميركية على الشرق الأوسط للإمعان في نهب ثرواته، عبر افتعال المشكلات للنظام الوطني في دمشق ولحليفه الاسلامي في طهران. والثورات العربية تحيي، في الرؤية هذه، منطقاً يتمسك بحكمة «بقاء القديم على قدمه» وأن «لا جديد تحت الشمس» سوى تغييرات طفيفة في الوسائل التي يحركها الغرب المعادي لفرض ارادته واسقاط والغاء كل المعارضين له. وما الثورة السورية سوى حلقة متقدمة من سلسلة اجراءات باشرها الغرب في تونس ومصر لازاحة نظامين بات فسادهما يعيقه عن تسديد الطعنة النجلاء التي صمم، أصلاً، على تسديدها الى ظهر النظام الممانع الذي هزم الهجمة الاميركية في العراق ولبنان وفلسطين، في العقد الماضي وحده، أي النظام السوري.

بيد ان في ما تخطه أقلام المنافحين عن الحكم في دمشق ومقابلاتهم التلفزيونية التي لا تنتهي، بذرة «ما بعدية» («بوست» بحسب التعبير المشتق من اللاتينية). فهؤلاء، ينعون الثورات العربية التي كشفوا امرها وانحرافها عن تحقيق آمال الجماهير في اسقاط معاهدة كامب ديفيد في مصر والتصدي للتمدد الاسرائيلي صوب تونس، ويعلنون أن المضمون الحقيقي للثورات العربية تجسده إصلاحات الرئيس بشار الأسد وأن اصرار من يحرك الشارع السوري على رفض الاصلاحات والاستمرار في تسيير التظاهرات وتنظيم الهجمات المسلحة على قوات الامن السورية واقامة الامارات السلفية هنا وهناك، يمضي في طريق الانحراف عن الأهداف التي كان يمكن للثورات العربية ان تحملها لو كانت ظواهر شريفة وتقدمية على ما يقول اهلها.

والحال ان طروحات «ما بعد الثورات العربية»، التي يفترض، على ما يدل اسمها، ان تحمل نقداً وتجاوزاً لأفكار الثورات، على غرار النقد والتجاوز اللذين تحملهما كل النظريات «الما بعدية» (ما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الاشتراكية …الخ)، تشير في العمق إلى عمق أزمة القائلين بها وانتمائهم الى زمن يطوي صفحاته الأخيرة. فاصلاحات الرئيس السوري التي ما زالت حبراً على ورق او كلمات في الهواء منذ خطاب القسم الذي القاه عند تسنمه الرئاسة عام 2000، لا تفتح باب تغيير جذري في داخل النظام او من خارجه. ومن دون خوض في معنى الاصلاح وفق ما تفهمه السلطات السورية، يجوز الجزم بأن الاصلاح هذا مرفوض على مستوى شرائح عريضة من السوريين.

وسيراً على نهج معروف، ارتكس نقاد الثورات العربية إلى ما قبلها، على ما فعل بعض نقاد الحداثة الذين شرّعوا الأبواب عريضة أمام بربريات متنوعة. وحل الأزمات العربية المتكاثرة، في رأي دعاة ما بعد الثورات هو في التمسك بالأنظمة السابقة التي اثبتت وطنيتها وعروبتها. لكن الأهم في العينة هذه من التفكير، هو مداورتها المشكلات الحقيقية وقرعها نواقيس أخطار كانت تنكر منذ اشهر قليلة وجودها من أصل. فلا حل لظاهرة الاقتصاد الطفيلي سوى في تبرع أسوأ رموزه للأعمال الخيرية. ولا معنى للمسألة الديموقراطية غير اثارتها مخاوف الاقليات الطائفية والعرقية والتلويح بتعرضها قاطبة لابادات لم يسمع العالم بها منذ زمن تيمور لنك. أما الأسس القانونية والدستورية التي يتعين ان يقوم الإصلاح عليها فيتعين الانتظار طويلاً الى حين خروجها من مقابر اللجان.

لقد فضّل كثر من السوريين «الثورة» وبقوا عندها ولم «يرتقوا» مع محللي الصحف والتلفزيونات الموالية للنظام السوري الى «ما بعد ثورية» لا تفعل غير انتاج النظام المتهاوي وقيمه وسلوكه الذي لم يعد في حاجة الى من يقدم الشهادات في عنفه وانكاره للحقائق السورية، أولاً، ولحقائق المنطقة والعالم ثانياً.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى