صفحات الرأي

نقد الذات خير من هدر الذات


كلوفيس مقصود

الآن وقد مر حوالى نصف عام على الانتفاضات الثورية بدءاً بتونس ومصر، حان الوقت لمحاولة تقويم صريح وواضح لما أنجزته وما أخفقت في تحقيقه، ومن ثم التركيز على ضرورة المراجعة النقدية، كي يتم استرجاع مرجعية ناجعة وبوصلة مؤهلة لإدارة مسيرة التغيير. وبرغم أن شعار «الشعب يريد إسقاط النظام» صار واقعاً في تونس ومصر، إلا أن البدائل المطروحة بقيت غامضة، مما أفقد المسيرة زخمها وهو ما أدى إلى بعثرة القدرة في اختصار المرحلة الانتقالية باتجاه النظام المرغوب. أكثر من ذلك، كانت «عدوى» الانتفاضات المتسارعة في عدد من الأوطان والمجتمعات العربية دليلاً ساطعاً على وحدة الشعوب العربية. القناعة السائدة بحتمية الاستقواء المتبادل في تسريع الحراك العربي النهضوي اصطدم هذا بمحاولات تطويق الاختراقات، ومحاولة جادة في زرع بذور الثورة المضادة بمختلف الوسائل المتاحة. بمعنى آخر، بدأ التعثر يلقي بظلاله من خلال الانقسامات والتعثر، في تسابق بين تعددية المراجع من أحزاب وفئات وعناصر، حالت دون التماسك فيما بينها. مما أكد على إعلاء شأن صغائر ما يفرق، في حين كانت الحاجة ــ ولا تزال ــ إلى ما يجمع ــ وهو كثير ــ حتى يتمّ رسوخ بديهيات شروط المراحل الانتقالية، كي نبقى بمنأى عن رجعية المتربّصين للحراك الثوري من جهة وتوفير المساحة لما أنجز وما يمكن واقعياً إنجازه.

استتبع هذه الحالة أن التسابق الذي أفرزته التعددية الحزبية والفئوية عطلت ما هو قائم من وحدة في الأهداف بما فوّت الكثير من الفرص ليتم تسريع الخطوات التي كانت بالإمكان أن تجعل التباينات العقائدية تندرج في إطار يؤكد ديمقراطية التنوع، والتعدد الفئوي على الشرذمة التي من شأنها تأجيل مسيرة بناء النظام البديل. وإذا كان لا بدّ من تعريف بعض أوجه المعضلة التي نمت بشأن معالجتها فإن تكاثر عدد ما تسمّى أحزاب في تونس حالت دون تماسك العناصر الليبرالية والاشتراكية من إنضاج إطار وحدوي فيما بينها. أدى هذا إلى سجالات مجموعة من الاحزاب المشرذمة وبين حزب النهضة الأكثر تماسكاً وبالتالي الأقدر تنظيماً، وهكذا إلى حد ما هو حاصل في مصر.

صحيح أن التعددية في إطار ما يسمى بالليبرالية والعلمانية واليسارية يركز على الخلاف على أضيق التفاصيل يقابله ما يقارب مستوى محدود من التباين في إطار ما يوصف بـ«الإسلاميين»، هذا بدوره أدّى إلى ارتباكات في مرحلة ما بعد «سقوط النظام».

إلا أن هذا لا يعني مطلقاً التقليل من أهمية ما قامت ثورتا تونس ومصر به، من تعزيز التجرؤ على نظم الاستبداد المتبقية في أرجاء الوطن العربي، ولا في دورهما الرائد في تحرير الجماهير العربية وخاصة الأجيال الطالعة من الخوف والاستكانة. ولا يقلل من دورهما الملهم في التعبئة والإصرار على مجابهة الظلم وخرق حقوق الإنسان وقمع المطالبات المشروعة التي توفرها سياسات التنمية المستدامة والحكم الرشيد. إن رجحان الإنجازات على نواقص ما أشرنا إليه يبقى مندرجاً في حيز التفاؤل إلا أن هذا بدوره عليه أن يكون حافزاً إلى التأكيد على استقامة الحوار من خلال ضبط المصطلحات وإنهاء عبثية التضاد في تعريف «العلمانية» كفصل الدين عن الدولة بل تعريفها كما هي في الواقع العربي وهو فصل الدولة عن المرجعية السياسية للمؤسسات الدينية.

إن المعالجة النقدية للأشهر الستة المنصرمة تصبح ضرورة ملحّة، لكونها ناتجة عن، أو يجب أن تكون من موقع الالتزام بهدف الحيلولة دون التحريض على ثورات التغيير من موقع المتربصين، فنقد الذات هو الوسيلة للحيلولة دون هدر الذات، والاستـقرار في قدرة التكيف مع المتغيرات واختزال ما قـد تواجهه ثورات التغــيير من مفاجآت ومحاولات تحريف الانتفاضات عن مساراتها.

لذلك فإن التركيز على كل من تونس ومصر لكونهما حققتا شعار «إسقاط النظام» والذي كان مطلباً سليماً اعتبره المجتمع الدولي أدى إلى وصفه بـ«الربيع العربي» ثم إن ريادة تونس ومركزية مصر يحملانهما مسؤولية مباشرة في توفير نمط للاقتداء مع اختلاف ظروف وأوضاع العديد من الأوطان والمجتمعات التي بحاجة إلى التغيير كما لدى شعوبها الاستبداد والقيام بالاختراقات المطلوبة كما هو حاصل في اليمن وسوريا آنياً.

ان جمود الثورة اليمنية حول اسقاط النظام وانضاج المجتـمع البديل ومن ثم لاختصار مراحل الانتقال باتجاه الدولة المدنية.. وإذا بدا هذا التــفاؤل لأول وهلة مبالغا به، الا أن ما وصفه بالانتقال من التمزيق الذي ساهمت قبائليته في تعميقه، جاء صموده في تحويله إلى استيلاء مجتمع لدولة وطنية تخرج اليمن من التهميش والاقصاء، إلى كونها دولة فاعلة ومجتمعا قادرا على جعل اليمن، ما تاق شعبه أن يكون وطنه مستـحقا أن يجعل اليمن السعيد وطناً حراً وشعباً سعيداً. طبعا لا اريد المبالغة في التفاؤل إلا أن ما عرفناه من إصرار على اللحمة المجتمعية والصمود أمام مراوغة بعض شرائح المعارضة تجعل ساحات التغيير في عاصمة اليمن ومدنها حالة واعدة.

إن المشهد الشامل للحالة الراهنة بعد مضى نصف عام يبقى عرضة للتطويق والاحتواء وان يكن مستحيلا اجهاض احتمالات شموله. إن محاولات التطويق كما نرى من شأنها ان استمرت قد تؤول إلى إعاقات للإنجاز مما يجب أن يسرّع استقامة مسيرة الثورات الرائدة مصر وتونس والى حد ما اليمن كي يشكل صمودها ونجاحاتها بوصلة قومية لحركات وانتفاضات عربية فنشاهد كيف أن ليبيا تعاني كثيراً وبشكل مأساوي العجز المؤدى في حراكها وكيف أن مبدأ مسؤولية حماية المدنيين الذي أكدته قرارات مجلس الأمن اضطر اللجوء إلى الحلف الاطلسي مما اربك ما كان ممكناً من انجاز الاهداف وكيف أن التناقضات بين أعضاء الحلف ساهمت في تمكين نظام القذافي شراء المزيد من الوقت لتفويت فرص الانجاز المطلوب. وما النظام الطائفي في لبنان والمتحكم بمصيره والذي جعل مجتمعه المدني وجميع طاقاته الثقافية والمبدئية والخدماتية في حالة اغتراب مطلق عن الواقع السياسي الراهن. كما أن ما حصل في البحرين كان تعبيراً عن تصميم لاستراتيجية التطويق على الحراك النهضوي وان لم يكن لإجهاضه.. ناهيك عن فشل السودان في الحفاظ على كيانه الوطني نتيجة فقدان الشعور بالمواطنة التي تقضي المساواة في الحقوق وتحول دون دستورية التمييز العرقي والديني والمناطقي.

وتبقى فلسطين هي الهم الأكبر وهي التحدي الأشمل وإن كانت بوادر إيجابية مثل رفع الحصار عن قطاع غزة واصرار مصر على تصحيح شطط الانقسام، ايجابية وان غير كافية، ولكن لهذا التحدي مجال آخر.

تبقى المسؤولية انجاز عروبة الحراك النهضوي مسؤولية من بادروا ومن أنجزوا وان لم يكن بما فيه الكفاية!

([) مدير مركز عالم الجنوب في الجامعة الأميركية بواشنطن

([) ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى