صفحات العالم

نقد المعارضة أم نقد الثورة/ عديد نصار

 

 

أن تأتي متأخرا خير من ألا تأتي أبدا أما الشاعر فيقول “لا خير في ود امرئ متقلب إذا الريح مالت مال حيث تميل”، والثورة هي نقد بلغ مستوى النقض، أما من “يتعربشون” على الثورة فهم المتقلبون الذين لا خير فيهم.

وفي الثورة السورية العظيمة التي يتوضح كل ساعة أنها لا تقف عند حدود نقض النظام المحلي وصولا إلى تبيان أنه لا يصلح إلا أداة أو حتى مجرد واجهة لـ”شرعنة” حروب السحق والإبادة بحق الشعوب الثائرة للإجهاز على ثوراتها ليس لأن الثورة هواية أو نزهة أو مجرد تجرؤ على الأنظمة، بل لأن الأنظمة ذاتها بلغت من التعفن مبلغا تمتنع تحت ولايتها أسباب الحياة في حدودها الدنيا، بل إنها، أي الثورة السورية، استطاعت كشف طبيعة النظامين الإقليمي والدولي على حقيقتيهما المروعة ليتبين خلال سنواتها الست كيف تحولت القوى المسيطرة فيهما إلى مجرد عصابات مافيوية معادية للإنسانية وللإنسان، وأن القيم المزعومة التي تتلطى خلفهما ليست سوى واجهات براقة، ما إن تعرضت لوهج الثورة حتى زال بريقها وبدت غريبة كل الغرابة عن المضامين التي تدعي حملها.

وليس هذا حال الأنظمة الحاكمة في العالم فقط، بل بدا جليا أيضا لدى كافة المنظمات الدولية المنبثقة عن هذا النظام العالمي وخصوصا المنظمات التي ترفع في وجه شعوبنا بيارق القانونين الدولي الإنساني وشرعنة حقوق الإنسان وحقوق الطفل والإغاثة والتدخل والمساعدات الإنسانية وما إلى ذلك من منظمات يتحصل موظفوها على أعلى الأجور ويتمتعون بشروط حياة الرفاه القصوى وبحصانات وحمايات يقف مواطنونا إزاءها مشدوهين كل ذلك من أموال الشعوب وعلى حساب دموعها ودمائها.

والنقد الذي هو محاولة لكشف الأخطاء والعيوب وللتخلص من الأوهام والشعارات الزائفة ولمعرفة الاختراقات التي يواجه بها أعداء الثورة الثوار لإرباكهم وإنهاكهم وقطع الطريق على صيرورة ثورتهم، هو بحد ذاته ركن من أركان الثورة لا تسير إلا به ولا يقوم به إلا الثوار المنخرطون كلية في العملية الثورية، لا المتسلقون أو الهابطون على الثورة الذين هم من تتمثل الاختراقات فيهم.

والنقد هنا، لا يتوجه إلى الثورة كثورة، ولا إلى الإمكانيات المتاحة ولا إلى قدرتها على التقدم هنا والانكفاء هناك ولا على مدى التضحيات التي فرضها عليها أعداؤها ولكن إلى النخب التي فرضت نفسها عليها والتي كانت خلال سنوات الثورة مسؤولة عن كل المآلات التي وصلت إليها، والنتائج المأسوية التي أصابت مجتمع الثورة هي مسؤولية هؤلاء بالدرجة الأولى.

ولئن كان من أوهام فرضت على الثورة فهم من فرضها. وإذا كان من قراءة مغلوطة لأسباب الثورة فهي قراءتهم هم، وإذا كان من شعارات عممت وأهداف رُوّج لها أسهمت في ضرب وحدة مجتمع الثورة، فإنهم هم من عمموها وهم من روجوا لها.

وعليه، فإن النقد، بعد كل ما جرى ينبغي أن يبلغ حدود النقض مع هؤلاء ومع الهيئات التي شكلوها أو بصيغة أدق، الجهات التي شُكلت لهم ليؤدوا دورهم في عملية الإجهاز على الثورة عن طريق تزوير الأسباب والأهداف وصولا إلى تزكية القوى المضادة للثورة واعتبارها ركنا منها.

وفي الواقع العملي قدمت، مؤخرا، مجموعة من المعارضين السوريين ورقة في نقد الثورة السورية ولتصحيح مسارها، جاءت هذه الخطوة بعد احتلال مدينة حلب وانكفاء قوى المعارضة المسلحة بشكل كبير، وكذلك انكفاء تشكيلات المعارضة السياسية المختلفة في الخارج لنفس الأسباب، وهي تخلي القوى العالمية والإقليمية عن دعمها بالطريقة السابقة أو اختلاف طبيعة هذا الدعم نتيجة التوافقات الدولية والإقليمية التي أرساها الانكفاء الأميركي والأوروبي لمصلحة الحضور الروسي الكبير في المنطقة، بما يؤكد أن النظام العالمي ترك للإمبريالية الروسية مهمة سحق الثورة السورية بشكل نهائي.

هنا ينبغي التوقف أمام الدوافع الحقيقية لعملية النقد هذه خصوصا أنها ساوت بين الثورة والمعارضة التي فرضت نفسها، أو فُرضت على الثورة، وأنها جاءت في هذا الظرف وتحت وطأة هذا الانكفاء ولم تتمكن حقيقة من ملامسة عمق المسألة وإنما نظرت في نتائج عمل نخب المعارضة وهيئاتها والأوهام التي عممتها أو استخدمتها لفرض أهدافها هي على الثورة وبالتالي للتعمية على أهداف الثورة الحقيقية، على أنها نتائج تواصل الثورة لهذه المدة “وذهابها إلى الحد الأقصى في كل شيء”.

وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أن النقد كان عملية متواصلة على مدى أيام الثورة السورية ولا يزال. النقد الذي بدأ مع الشعارات والهتافات الأولى للثورة مرورا بتشكيل لجان التنسيق المحلية ثم إعلام الثورة وتعرية وكشف الإعلام المضاد للثورة، ثم تشكيل الجيش الحر ثم التسميات التي أطلقت على تشكيلاته ثم تسميات الجمع والعمل على فضح طبيعة التشكيلات السلفية المرتبطة بأجندات خارجية مكلفة بتحجيم وضرب تشكيلات الجيش الحر والتخلص من الناشطين الثوريين، ثم إعلان “تحرير” الأحياء والمناطق منذ تجربة حي القابون وما تلاها من تدمير شامل لهذا الحي الدمشقي، وصولا إلى تشكيلات المعارضة “المكرسة” والممولة والمفروضة خارجيا لفرض أجندات مموليها على الثورة.

ولم يتوقف النقد عند هذه الحدود بل تعداه، ومنذ الأيام الأولى إلى كشف الأوهام التي عُمل على تكريسها عبر الفصائل “الجهادية” التي عملت على تكريس نظرية النظام القائلة، إن الصراع في سوريا هو بين النظام وبين قوى التطرف الديني الإرهابية، وفضح الأوهام التي عممتها المعارضة الخارجية حول “الضربة القاضية” التي ستسقط النظام.

الأوهام التي تعرضت لها ورقة المعارضين السوريين كان قد تم تفنيدها ونقدها، بل نقضها منذ أن أطلقت، لكن النخب التي تمكنت من تسيّد الموقف بفعل الإمكانيات التي وضعت تحت تصرفها، لم تتغاض فقط عن هذا النقد بل واجهته وحاربته بطريقة أريد لها أن تتكامل مع صيرورة الإجهاز على الثورة نفسها.

إن الإعلان عن أن الثورة لم تهزم لا ينبغي أن يؤدي بأصحابه إلى توسل “الحلول التسووية” بين من قامت الثورة للإطاحة بهم وبين من كان توظيفهم الخارجي جزءا من مكافحة الثورة.

كاتب لبناني

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى