صفحات الرأي

نقد الوعي الديموقراطي أو انهيار ثلاث مسلمات


سعيد ناشيد

الذين يعوزهم الذكاء النظري، أو الذين يحتقرونه ويستصغرونه، بدعوى أن الغرب أجاب عن كل الأسئلة النظرية ولم يبقَ لنا غير التطبيق، أو بدعوى أن الإسلام هو الحل لكل المسائل وما علينا سوى التصديق، أو تحت مبرر أن التقنية تفرض أسلوبها على الحياة وليس لنا غير التحقيق. هؤلاء، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة، وسواء كانوا في الدولة أو الثورة أو المقاومة، يقعون في أسوأ الأخطاء النظرية. لماذا؟ لأنهم عاجزون عن مساءلة المسلمات ومراجعة المرجعيات ونقد البداهات، وأيضاً، لأنهم يخلطون بين الفرضيات والمعطيات، وبين المعطيات والمعلومات، وبين المعلومات والمعرفة… وما داموا كذلك، فسرعان ما تتجاوزهم الأحداث الحسية وتتخطاهم الوقائع الملموسة، ويصعب عليهم أن يدركوا المتغيرات ويستدركوا التحولات.

القصور النظري الحاد الذي عانى منه الوعي الديموقراطي العربي، جعله ينساق لثلاث مسلمات حول المسألة الديموقراطية، ما أدى إلى تعثر موجة الإصلاحات التي أطلقها بعض الملوك العرب خلال العقدين الفارطين (البحرين والأردن والمغرب مثلا)، وهي الإصلاحات التي تبدو للبعض وكأنها بمثابة الحلقة الأخيرة من رهان تاريخي طويل على دور «أولي الأمر» في إصلاح شؤون «الرعية».

ثلاث مسلمات، كانت تبدو صادقة صدقاً لا يحتمل الشك ولا يحتاج لأي حجاج، قبل أن تقوم ثورات الشارع العربي بدحضها وتفنيدها:

المسلمة الأولى: الديموقراطية غاية وليست وسيلة.

حيث تبدو الديموقراطية وكأنها مشروع يتحقق عبر سيرورة تستغرق مسافة زمنية معينة، ومن خلال برنامج عمل يتألف من عدة خطوات ومراحل؛ وكأنها ذلك الحق الذي لن ندركه إلا عبر طريق متدرج أو متعرج قد يطول مداه أو يقصر؛ وكأنها تلك الغاية التي لن نبلغها إلا عبر وسائل قد لا تتوفر جميعها وقد يستدعي بعضها جهداً جهيداً لا يخلو من مشقة وانتظار.

ولأن الغاية لا تتطابق بالضرورة مع الوسيلة، ولأن الغاية ليست دائماً من جنس الوسيلة، فمن الضروري إذاً أن نميز بين النقطة التي نريد الوصول إليها، والتي هي الديموقراطية، وبين الطريق الذي يتوجب علينا اختياره، والذي قد يختلف عن الديموقراطية إن قليلا أو كثيراً.

 

تبعاً لتلك المسلمة، لا بدّ من الدخول في مشاريع مغايرة أو حتى مناقضة لمطلب الديموقراطية -طالما الديموقراطية ليست مبدأ- ويُفترض أن تمهد لمرحلة الديموقراطية، من قبيل معدلات النمو الاقتصادي، ومؤشرات التنمية الاجتماعية، ومستويات الأمن والاستقرار، ونسب الفقر والأمية، وبرامج الإصلاح الديني والثقافي ونحو ذلك. تلك هي المقاربة الأداتية لمسألة الديموقراطية كما تبناها، جهلا أو تجنياً، الوعي الديموقراطي العربي، سواء من موقع السلطة أو المعارضة.

مشكلة تلك المقاربة تكمن في أنها تستند بدورها إلى منطلق أداتي في تعريف الديموقراطية، يرى بأن الديموقراطية هدف وغاية. وهو التصور الذي توشك ثورات الشارع العربي أن تجعله متجاوزاً لفائدة تصور يعتبر الديموقراطية ليست مجرّد وسيلة مرحلية ولا هي غاية مؤجلة، ليست مجرد تدابير وبرامج وإجراءات، بل هي قيمة تواصلية، بل هي قيمة في ذاتها، مثلها مثل الحرية والعدالة والكرامة والسلام.

المسلمة الثانية: لا ديموقراطية مع أعداء الديموقراطية.

هكذا كان يقال مراراً وتكراراً، والقليلون من تجرأوا على مساءلة هذه المسلمة التي تبدو كما لو كانت من باب أن السماء فوقنا. وبالفعل فإننا لا ننكر وجود هشاشة أصلية تكتنف الديموقراطية وتجعلها قابلة للاستغلال من قبل أي طرف يود بلوغ السلطة والشروع في الانقلاب على العملية الديموقراطية. ما يجعل الديموقراطية تبدو وكأنها تشكل خطراً على نفسها.

لكن هل قابلية الانقلاب على الديموقراطية تكفي لكي نرفع شعار «لا ديموقراطية مع أعداء الديموقراطية»؟ وهل يكون الرد على أعداء الديموقراطية المفترضين من خلال وأد الديموقراطية وإقبارها؟ وحين نقبر الديموقراطية، أو نحصر مجالها على من نعتبرهم ديموقراطيين «صادقين» ونوصد الأبواب على من نظنهم مزيفين أو مخادعين، كما نفعل مع الدجال، فأي امتياز أو مشروعية أو تميز يبقى للديموقراطيين في مواجهة أعداء الديموقراطية؟ ألسنا بمثل هذا التصور الأداتي للديموقراطية نتحول إلى أعداء للديموقراطية، وذلك بدعوى حماية المشروع الديموقراطي الوهمي من أعدائه الافتراضيين أو المفترضين؟

إن التصدي لأي عدوان محتمل على الديموقراطية لن يكون من خلال جعل الديموقراطية تنحسر أو تنكسر، وإنما سيكون عبر نشر المنهجية الديموقراطية وتعميمها والدفاع عنها.

المسلمة الثالثة: لا ديموقراطية بدون ديموقراطيين.

يبدو وكأنه يستحيل إنشاء نظام ديموقراطي بدون أشخاص ديموقراطيين. ما يعني أن علينا أن ننتظر ظهور أشخاص يؤمنون قولا وفعلا بالدعوة الديموقراطية، قبل الدخول في مرحلة التحول الديموقراطي.

لكن ألا تكون هذه البداهة مجرّد متاهة قد لا تنتهي لغير انتظار طويل وبلا أي أفق للحظة انبثاق فجائي للديموقراطيين؟

ولنقم بالاختبار التالي:

متى نقرر أن نظاماً معيناً أصبح ديموقراطياً؟ هذا السؤال يمكننا الإجابة عنه.

متى نقرر أن فرداً معيناً أصبح ديموقراطياً؟ هذا السؤال تتعذر الإجابة عنه.

إننا غالباً ما نطلق صفة الديموقراطي على الشخص الذي يطالب بالديموقراطية ويقاوم النظام الاستبدادي. لكن هل تكفي المطالبة بالديموقراطية ومقاومة الاستبداد لكي يصبح المرء ديموقراطياً أو لكي نقول عنه إنه كذلك؟ من هو الديموقراطي إذاً؟ هل هو فقط من يطالب بالديموقراطية دائماً وأبداً؟ أم بالأحرى أن قدرة الناس على الإنتاج والإبداع والمبادرة داخل الفضاء العمومي، ودينامية تواصل المواطنين داخل وعبر مؤسسات ديموقراطية مفتوحة، هي التي تحدد لنا مدى ديموقراطية الأشخاص؟

ليست الديموقراطية صفة لأفراد معزولين أو متصورين افتراضياً أو مجتمعين في الساحة العمومية، حتى ولو كانوا يطالبون بالديموقراطية بل ويضحون من أجلها. وإنما هي صفة لأنماط التواصل السياسي والتبادل الثقافي والعلاقات المؤسساتية.

تلك هي المرحلة التالية من ثورات الشارع العربي، لا سيما في مصر وتونس، وحيثما وصلت الثورة إلى مرحلة ما بعد الثورة أو تكاد. مهمة هي الأصعب لكنها الأهم.

([) كاتب وباحث من المغرب

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى