صفحات سوريةنجيب جورج عوض

نقطة أداء: حين تقع المعارضة في فخ أدائها


د. نجيب جورج عوض

 لست من جماهير قناة الجزيرة ولا من الذين يعتقدون أنها قناة مهنية وموضوعية ومحترفة. كان هذا ومازال رأيي الشخصي بالقناة منذ بدأنا نتفرج عليها حين كانت قناة واحدة لا غير وصولاً إلى تحولها إلى شبكة غنية ومتنوعة وشاملة من القنوات. من بين البرامج التي عندي تحفظات كثيرة عليها إعلامياً وثقافياً وأداءاً ومعرفياً وحتى أخلاقياً برنامج الدكتور فيصل قاسم، “الاتجاه المعاكس”. عندي تحفظات جادة جداً على احترافية ومهنية المقدم ولا أعتقد أنه مناسب لإدارة حوار بالمعنى الحقيقي لكلمة حوار. براعته تكمن في قدرته على إشعال جدل واستفذاذ عراك، لا بل واتسمتاعه كما يبدو بدفع ضيوفه إلى حافة الصراخ والزعيق والاعتماد الانفعالي والمفرط على لغة الجسد (body language)، حتى يمكن القول أن تلك الأخيرة واستخدامها هما مقياس ترجيح كفة أحد الضيفين على الآخر وتصويره بصورة المنتصر، حتى وإن كان طرحه هو الأسخف والأهزل فكرياً والأكثر تسطيحاً وتعميمية ولاموضوعية ولاحوارية ولا مصداقية من تلك المتعلقة بطرح محاوره.

 بعد سنوات طويلة من توقفي عن متابعة قناة الجزيرة الإخبارية وامتناعي الواعي والمقرر عن متابعة برنامج الاتجاه المعاكس، حضرت مؤخراً الحلقة الأخيرة من البرنامج والتي دارت عن سوريا واستضاف فيها الأستاذ قاسم عن المعارضة الأستاذ محمد العبدلله وعن النظام الأستاذ عبد المسيح الشامي. حضرت الحلقة معادة ومسجلة من على صفحة أحد الأصدقاء على الفيس بوك. ما دفعني لحضور الحلقة هو التعليقات، الساخرة والهزلية بمعظمها، التي علق بها أصدقاء وأشخاص فيسبوكيون على سقطة ممثل النظام عن كرسيه في اللحظات الأخيرة من الحلقة. واحدة من التعليقات التي قرأتها متكررة أمامي على الشاشة كانت “شوفو كيف وقع ممثل النظام على الأرض في نهاية الحلقة التي مسح فيها محمد العبدلله بهذا البوق الأرض.” فهمت من عبارة “مسح فيه الأرض” أنَّ السيد عبدلله أفحم محاوره بنقاشه وفند بعقلانية لا يشق لها غبار وتعامل بمنطقية وقدرة حوارية عالية ومحترفة مع كل نقاط محاوره وأسئلة مستضيفه بشكل جعله يثبت قدرة الثورة والداعمين لها على تقديم خطاب ثوروي مفحم وعقلاني ذو منطق مبين وقوة إقناع لا تلين ولا تهتز فكرياً أمام أي من ادعاءات وأكاذيب النظام وممثليه. هكذا، أقول فهمت تعبير “مسح به الأرض.” ولذلك، تحمست لكسر قراري وتابعت الحلقة. ما خرجت به من متابعتها هو ما يلي:

 1- حفلة مخيبة للعقل وللعين وللتمدن، في الواقع، من السباب والاتهامات والزعيق والسخرية والتهجم والعنف الكلامي والانفعالات العاطفية والدفاعيات الجدالية. حفلة نال فيها الدكتور فيصل قاسم طبقه المفضل من برنامجه ونجح بجعل طباخي تلك الحلقة يطبخان له الطبق العظيم الذي يهواه لا يدفع عادة ضيوفه لطبخه دفعأً. والمضحك كان أن كلا منهما واظب على القول الآخر “أنا لم أقاطعك فلا تقاطعني” في الوقت الذي لم يكف فيه أي من الضيفين عن مقاطعة بعضهما البعض وبأبرع الأساليب.

 2- لن أعلق أبداً على طروحات السيد عبدالمسيح الشامي، فهو في الحقيقة لم يطرح أي شيء. حشر نفسه في زاوية التبرير والدفاع عن النظام بكل الوسائل، مقرراً بهذا ومن البداية أنه سيكون الخاسر في الحوار لا محالة. فهو بدا فعلاً مجرد مردد ببغائي لمقولات وادعاءات مللنا من سماعها من الناطقين باسم النظام. أساءني، كما أساء مسيحيين آخرين مع الشارع السوري ويدعمون الثورة، أن لا يجد السيد قاسم سوى شخص مسيحي ليحضره ليدافع عن النظام. أعرف وأتفهم وجود مسيحيين مع النظام ولا يحق لي ولا لغيري التعدي على حقهم وحق الجميع باتخاذ الموقف الذي يريدون. كل من يتحمل مسؤولية مواقفه ويدفع ثمنه. لكنني أأسف على إعطاء الانطباع بأن مسيحيي سوريا بأمهم وأبيهم يقفون مع النظام ويدعموه ويدافعون عنه. وباستضافة السيد قاسم لمسيحي لينطق باسم النظام، قدمت قناة الجزيرة خدمة للنظام الذي درج على القول أن الأقليات تقف معه كلياً وأنه يحمي المسيحيين وينطق باسمهم، بل ربما يعتقد المسؤولون على القناة هم أيضاً نفس الاعتقاد بما يحمله من تداعيات ومعانٍ مؤذية وديانة وخطيرة والأهم من كل هذا غير صحيحة وفيها تجني. أنا مسيحي سوري مستقل لا أمثل في معارضتي للنظام ووقوفي مع الشارع سوى نفسي وضميري أمام السيد المسيح الذي تعهدت أن أخدمه وأخدم الإنسان في ضوء تعاليمه. أنا هذا المسيحي السوري الذي يقول أنَّ النظام لا يمثلني وأنَّ السيد الشامي لا ينطق لا رأيي ولا باسمي. وأود القول أنه لم يدافع عن النظام في الحلقة بصفته مسيحي، بل بصفته من مؤيدي النظام. لفت نظري اسمه “عبد المسيح الشامي”. ذكرني بأسماء مركبة ومصطنعة مثل “أبو مصعب الزرقاوي” أو “أبو مصعب المصري”.

 3- ما كان يعنيني في الحلقة المذكورة هو صورة المعارضة وخطاب الثورة السوري الذي سيقدمه السيد محمد العبدلله. أقول من منطلق موضوعي وعقلاني وحواري محض (مع احترامي للشخص في ذاته وتقديري لسعيه الصادق من أجل حرية سوريا) أنَّ خيبة أملي من مساهمة السيد عبدلله تعادل في حجمها حجم عدم انتظاري لطرح يعول عليه من بوق النظام. آسفني أنَّ السيد عبدلله لم يقدم لا صورة مضيئة ومتوازنة ومحترمة عن المعارضة ولا طرح في الحلقة أي خطاب على الإطلاق. بل ضاهى مناظره ومستضيفه، إن لم يكن بذهما، صراخاً وتهجماً وشتماً واتهاماتٍ بالطول والعرض. والأكثر أسفاً أنه لم يجب حتى ولا على سؤال من الأسئلة المهمة التي طرحها مستضيفه أحياناً قليلة مثل: مسألة البديل الواقعي للنظام؛ مسألة تفكك المعارضة؛ ومسألة دور المعارضة على الأرض داخل سوريا. قضى السيد عبدلله معظم الوقت يشتم ممثل النظام ويهزأ بكلماته ويقاطعه باستمرار، مردداً عمالته لعلي مملوك وعلي جمالو وأسياده وعائلة الأسد المجرمة واللصة. لا أناقش هنا صحة أو زيف تلك النواحي، فأنا أصدق محتوى تلك التسميات ومسؤولية أولئك الأشخاص عن وضع سوريا المأساوي. لكنني أتسائل ما إذا كان في هذا الأسلوب أي فائدة في إيصال صوت المعارضة ومنطقها السياسي والدولتي وفي تقديم صورة بناءة ويعول عليها لحوارية وقدرة المعارضة على الرد العقلاني والمدني على أي طرح للنظام، مهما كان فارغاً وسخيفاً وممجوجاً.

 أردت أن اشارككم بتلك الانطباعات لا لكي أبالغ في خلق ما لا يستحق خلقه من مجرد حلقة تلفزيونية. أريد فقط أن أقول أنَّ كل صورة موضوعية ومحترفة وحوارية وعقلانية وهادئة تقدمها المعارضة عن نفسها لا تخدمها فقط بل تخدم صورة وتنقل صوت السوريين الذين في الشارع وتشجع السوريين عموماً على الالتفاف أكثر حول المعارضة والتعويل عليها كبديل مدني وموضوعي ومحترم عن النظام. حلقة الاتجاه المعاكس أساءت لهذا الجانب. وللأسف”مسح فيه الرض” لم تعنِ سوى معناها الحرفي القتالي والعنفي والذي لا علاقة له أبداً بأخلاقيات ومبادئ أي حوار. للأسف، أكاد أقول أنَّ السيد عبدلله مسح بممثل النظام الأرض، ولكنه مسح بصورة المعارضة الأرض أيضاً، محققاً برأيي ما أراده مضيفه ببراعة. المنتصر الوحيد في تلك الحلقة هو كالعادة فيصل قاسم.

تعبنا من أخطاء وهفوات وتقصيرات وقصر نظر وعدم كفاءة وانفعالية وتجييشية وكربلائيات بعض أطراف المعارضة وانجرافهم بسهولة إلى كل فخ أخلاقي أو سياسي أو إعلامي أو استراتيجي أو تمثيلي (النطق باسم) يجرهم إليه النظام ويلعب بهم فيه أمثال السيد فيصل قاسم. تعبنا من براعتهم في جعل الرأي العام وجعلنا أيضاً نكاد ننسى لعبة النظام التي يحاول بها أن يقول لكل العالم: المعارضات التي تدعمونها لا تقل سوءاً ولا تقل عدم كفاءة عني. السوريون في الشارع يحتاجون إلى وعي وعقلانية واحترافية وموضوعية ولحظة تخلٍ غيرية أكثر وعياً ونضجاً ومسؤولية من جميعنا. بحق الله….لا تلعبوا لعبة فيصل قاسم وأمثاله ولا تمرأوا في أداءكم ما يقوله النظام عنكم وعنا جميعاً. أن نرى في الإعلام أنَّ طرف المعارضة وطرف النظام يشبهان بعضهما في الأسلوب والصورة والأداء يعني خروج النظام فائز في نهاية الحلقة وأنَّ من وقع على قفاه عن الكرسي في الحلقة أوقع من بقي على كرسيه على رأسه في نهايتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى