صفحات العالم

نقطة اللارجوع …


نهلة الشهال

فرض القمع الفظيع في سورية تجاوز كل موقف متحرج حيال ما يجري، وما يمكن أن يبرر لهذا أو ذاك بعض التحفظ أو التردد: لا يمكن، بحال من الاحوال، التغاضي عن قصف مدن بحالها، عن التصفيات الجماعية، والتمادي في التنكيل. ومن يفعل يكن ظالماً، أياً يكن. وللحق، فمعظم المواقف المتحفظة كانت تنطلق من هواجس تتعلق بحساب نتائج انهيار النظام السوري على البلد نفسه وعلى محيطه. كانت تلك المواقف تخشى، بشكل مشروع، انحدار الوضع نحو حرب أهلية طويلة ومدمرة. وكانت تخمن أيضاً الأثر الذي يمكن أن ينتج عنها على البلدان المحيطة، كالعراق ولبنان والاردن، بل تركيا، ولو من منظور المسألة الكردية، وما يمكن أن يصبح «مسألة علوية» في تركيا نفسها. كانت تخشى فوضى عارمة على الطريقة العراقية، وتغيراً إجبارياً في التوازنات الرجراجة السائدة في البلدان المحيطة، تدفعها هي الاخرى نحو الفوضى.

معظم تلك المواقف المتحفظة كانت تدين القمع، وما أسمته «الحل الامني» للأزمة السياسية العامة، ولكنها كانت تأمــــل أن يستعيد النظام بعض العقلانية، إن لم يكن بالأصالة، فبسبــــب غريزة البقاء. وأما المواقف المتحفظة أو المحرجة التي تنطلق من اعتبارات وظائفية، تتعلق بتحالف سورية مع إيران منظوراً إليه من منطلق جيو-إستراتيجي إجمالي، أو من واقعة دعم دمشق للمقاومات في المنطقة، أو من حسابات التوازنات الطائفية الإجمالية، فهي لا تُحسد على وضعها! فهي تجد نفسها في تناقض لا يمكن حسمه إلا بتعسف.

لكن غريزة البقاء في هذه الانظمة مشوهة بالضرورة وبالتأسيس. هل نُسي كيف كان صدام حسين يتشدق بجملته الشهيرة «الخوف زين»، ولا يعرف حدوداً، حتى أوصل العراق الى الكارثة وأتاح احتلاله. وهو المنطق نفسه يدفع النظام السوري الى ارتكاب مجازر حماه ودير الزور وغيرهما، لإظهار «العين الحمراء» إرهاباً للناس، وأملاً بتبريد حميتهم.

وبالتلازم مع هذه الإستراتيجيا، تستمر دمشق في اصدار قرارات ومراسيم «إصلاحية»، آخرها قانون التعددية الحزبية. وعلة هذه (مما لا يبدو أن النظام يدركه) انها ملطخة بالدماء، وهي بهذا المعنى مهدورة ولا قيمة لها. ثم هي تصدر عن السلطة انفراداً، أي بالطريقة المتعالية والأحادية ذاتها التي تقرر وتنظم القمع. ولذا، تصبح هذه القرارات رديفاً للقمع وليس بديلاً منه، فالإطار الذي يتم في ظله «الإصلاح»، كما الآليات التي تتحكم به، هما هنا في غاية الاهمية، ولعل الامل بأن يتمكن النظام السوري من الانقلاب على نفسه كان وهماً صافياً، وإن مدفوعاً بأفضل النوايا.

لقد استثمر النظام السوري طويلاً الخشية من الفوضى والتفكك ليستأثر بالسلطة، بحجة أن لا بدائل منه، وهذه عملية معروفة، قوامها أن تسحق الانظمة كل مجال لتبلور حياة سياسية وفكرية وثقافية، ثم تعتدّ بافتقادها. وهو استمر في استثمار تلك الخشية بعد انطلاق التحركات الاجتماعية، التي كانت تستبطن وجود تلك النقيصة، وتدرك بالمقدار نفسه حساسية موقع سورية في المنطقة ومركزيته. ولذا، فهي في بداياتها كانت تطالب بالإصلاح، ولم ترفع شعارات اسقاط النظام إلا حين أمعن هذا الاخير في القتل.

هل كانت «المجموعات الارهابية المسلحة» وفق تسمية السلطة السورية لها، موجودة منذ بداية الحراك الاجتماعي؟ لا شك، وأهل السلطة يعرفون أغلب أفرادها معرفة جيدة، وقد سبق لهم التعامل معهم بطريقة ودية ومتعاونة في سياقات تنظيم مقاومة الاحتلال الاميركي للعراق، إلا ان تلك المجموعات كانت معزولة، وكانت مطالباتها غير مطابقة للمزاج العام، الى أن غيَّر مسلك السلطة الموغل في الدم الموقف. ولعل أفضل مثال على ذلك ما جرى الاسبوع الفائت في حماة، فقد تعرضت القوات السورية المهاجمة لمقاومة شرسة وشعبية. ذلك هو الفارق بين حماة عام 1982 وحماة اليوم، ففي الاولى، كان عدد المسلحين من الإخوان المسلمين وقتها (بخلاف الحالة السلفية اليوم) لا يتجاوز المئة، وقد تركوا أسلحتهم وفروا مع بدايات الهجوم الذي استباح مدينة عزلاء بغاية «تأديب» كل سورية، وحسم الموقف. أما اليوم، فمن يطلق زجاجات المولوتوف أكثر ممن يمتلك قاذفات مضادة للدروع. والقمع بعيد عن التمكن من حسم أي موقف، لامتداد الاحتجاجات افقياً بشكل غير مسبوق، يسمح بالكلام عن حلقة مفرغة، تتغذى بصورة مستمرة من دورانها.

لقد انتقلت المسألة في سورية من صعيد المراهنة على استدراك النظام للموقف الى صعيد آخر تماماً يتعلق بآفاقه المحتملة. وعلى رأس ما يثيره ذلك، معضلة المعارضة كما هي قائمة، أعطابها البنيوية وتلك المتعلقة بسياق ممارستها، ولكن الأكثر خطورة هو احتلال المشهد من قبل معارضة أميركية الهوى، أو صنيعة الأميركيين، بل مهادِنة لإسرائيل. شاهدنا منذ أسابيع السيد البيانوني، زعيم الاخوان المسلمين، يعرض الموقف في سورية ويناقشه على إحدى القنوات الاسرائيلية. وشاهدنا معارضين سوريين يلتقون بالسيدة كلينتون ويطالبون واشنطن بمزيد من «الضغوط النوعية». وحجة هؤلاء أن شراسة النظام لا تترك لهم الخيار.

لكن المعارضة السورية، «الضعيفة والمشرذمة»، و «غير المعادية للأميركيين إطلاقاً» وفق الوصف الاميركي لها، لم تعمل على بلورة بعض ما هو ضروري كمشروع مجتمعي لسورية، يتناول تصورات لما ينبغي أن يكون عليه البلد كنظام سياسي واجتماعي واقتصادي. وهذه مهمة فورية في سورية تحديداً، غير قابلة للتأجيل الى ما بعد الخلاص من الاستبداد، كما قد تكون الحال في بلدان أخرى. بل هي قد تكون إحدى وسائل بناء المعارضة نفسها التي لم يفلح تجنبها في تسهيل المهمة، بدلالة تجربة «إعلان دمشق». والسبب يكمن في خصوصيات سورية، حيث التركيب المجتمعي بعيد عن التجانس دينياً وطائفياً وإثنياً، وحيث حُكم لأربعين سنة باسم اشتراكية مشوهة أدت الى تجميع الثروة في يد السلطة ثم في يد نخبة السلطة ورأسها، والى توليد فساد هائل يقابله بؤس واسع وخراب للاقتصاد المنتج، وحيث تمتد إسرائيل طويلاً، وعلى بعد بضع عشرات من الكليومترات من العاصمة، وحيث التغيير السوري يطال المحيط بمعناه الواسع وصولاً الى ما وراء الحدود المباشرة…

الثمن الذي يدفعه السوريون باهظ بسبب من الطبيعة الشرسة للنظام ومن غياب احتمالات انشقاقه كما حدث في تونس ومصر. ولكن المهمة تبقى هي نفسها: التغيير بواسطة حراك عام وشعبي، سلمي تعريفاً. سلمي ليس رأفة بأهل النظام القائم، وإنما لأن ذلك هو ما يسمح بالتبلور التدريجي والمتعاظم للبديل، وبالانتصار على منطق الحرب الاهلية الذي بات أهل النظام القائم يغرفون منه، مطبّقين هنا أيضاً قاعدة «من بعدي الخراب».

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى