صفحات الرأييوسف فخر الدين

نكبة “الأخوان” في مصر/ يوسف فخر الدين*

ما إن وصل “الأخوان المسلمون” إلى السلطة، حتى دخلوا فوراً في مشكلاتها. من المتوقّع أنّ قادتهم علموا مسبقاً أنّ شيئاً من هذا سيحصل معهم، وإلا لما كانوا تردّدوا وجعلوا من ترشيح واحد منهم للرئاسة موضوعاً للحوار في هيئتهم القياديّة وحسموا الجدل حوله بالتصويت ليفوز الرأي القائل بالمشاركة بفارق ضئيل، كما نُقل. بيّنت أعمالهم لاحقاً أولويّاتهم، وما يظنّونه الأخطار التي تهدّد حكمهم، إلا أنّ النتيجة كانت فشلهم في إدارة المرحلة الديموقراطيّة الأولى في مصر.

استغلّ العسكر أزمة في الحياة الديموقراطيّة ليقدّموا أنفسهم للناس على أنّهم الحلّ لمشكلة الاضطراب والفوضى، ومكمن استقرار الحياة العامّة، وأن في إمكانهم وحدهم إخراجها من أيدي السياسيّين العابثة. هذا ما وجد في انقلاب عام 1953 قبولاً شعبيّاً من قِبل قطاعات اجتماعيّة لم تجد في ألاعيب السياسيّين ومناوراتهم وصراعاتهم على السلطة أيّ فائدة، فمالت لاختيار الاستقرار حتّى لو كان معناه العبوديّة. لن يكون من التسرّع توقّع أن يستطيع حكم مركزيّ تلقّى صفعة قويّة في ثورة 25 يناير 2011، دفَعته إلى إجراء تغيير اضطراريّ، حلّ واحد من الاستعصاءات المسبّبة للثورة عبر حلول موقّتة للأزمة الاقتصاديّة، طالما أنّه سيتلقّى دعماً كبيراً من دول خليجيّة تناصب “الأخوان” العداء، وإن بشرط قدرته على قمع “الأخوان” ودفعهم للاستكانة.

من المستغرب أن تصدر عن تنظيم عريق كتنظيم “الأخوان”سلسلة من الأخطاء، لطالما ظُنّ أنّ لديه موروثاً وخبرات تمرّست في العمل السياسيّ. خذ مثلاً أنّهم لم يدركوا أنّ التراجع أمام الأحزاب المدنيّة المطالِبة بتعديل فقرات من الدستور هو أهون الشرور، طالما أنّ الخيار الآخر هو فقدان مظلّة التشاركيّة التي تطمئن المجتمع الدوليّ والقطاعات الاجتماعيّة التي يمثّلها هؤلاء. وأنّهم لم يتنبّهوا إلى أنّ بقاءهم وحدهم في مقابل عسكر يتحيّن الفرصة للتخلّص منهم، هو من باب المغامرة غير المحسوبة العواقب. كما أنّهم لم يدركوا أنّ رسائل الودّ التي وجّهوها تجاه إيران ستبعث الشكّ في قلوب السلفيّين، لأنّ الأخيرين يعيشون، مثل عموم السنّة في المنطقة، حالة حنق على ملالي إيران نتيجة ما يفعلونه في سوريا، مضافاً إلى نفورهم المذهبيّ الأصليّ، وإلى تأثّرهم باستياء أهل الحكم في المملكة العربيّة السعوديّة الذين لا يكنّون لـ”الإخوان” الودّ أصلاً ويتخوّفون من نجاحهم. وأنّهم لم يعوا أنّ الاستيلاء على الدولة من خلال تعيين موظفين من جماعتهم في مواقع حسّاسة سينعكس استفزازاً للأطراف الآخرين جميعاً، وهو ما لا يمكنهم ضبطه طالما أنّهم لا يقدرون على سلوك سبيل القمع الذي لا يمتلكون أدواته. وبدلاً من وعي ما سبق، وجدناهم يردّدون مبرّرات السلطة نفسها التي خلفوها عندما قمعت وزارة الداخليّة المتظاهرين ضدّهم، ويطلقون مريديهم للدفاع عن حكمهم، ليظهر أنّ لديهم ميليشيا تقوم بعمل الدولة، ما دفع الناس دفعاً إلى حضن من يردّد دون كلل أنّهم يرومون إقامة إمارتهم محلّ الدولة المصريّة مصدر الثقة ومحلّ التقدير الشعبيّ. ولمّا كانت أخطاء “الأخوان” كثيرة، تصبح كلّ التقييمات التقليديّة عن حنكتهم السياسيّة محلّ مراجعة، ويصل الأمر إلى السؤال إن كانوا قد تعلّموا شيئاً من تجربتهم الطويلة التي كانوا خلالها الحجّة التي يختبئ خلفها الاستبداد مهدّداً المجتمعين الدوليّ والمحليّ بأنّ رحيله سيؤدّي إلى حكمهم. إنّ سرعة انقلابهم على تعهّداتهم، وعلى حلفائهم االليبيراليّين واليساريّين الذين قبلوا بـ”تحالف الضرورة” معهم في ثورة 25 يناير تدلّ على أنّ الجواب هو أنّهم لم يتعلّموا شيئاً، وأن أحلامهم بتغيير طبيعة الدولة، وآمالهم بحيازتها، لا تزال تتملّكهم كما كانت دوماً من دون أيّ تغيير ممّا أملنا وأمل به قطاع عريض من الناس، وأنّ ما أعلنوه في مصر أو سوريا عن قبول الديموقراطيّة ما هو إلا مناورة سياسيّة لم تعكس تبنّيهم الديموقراطيّة منهجاً. هذا ما بات واضحاً في الملموس بعدما كان يُشار إلى غياب عمليّة الإصلاح الدينيّ المرافقة لحديثهم عن الديموقراطيّة كدليل على أنّه كلام للتداول الخارجيّ لا يصل إلى تغيير فهمهم للسياسة والدولة والمجتمع.

إلا أنّ في محاكمة كهذه، تسرّعاً في بعض جوانب، فماذا سيكون القول لو استطاع “الأخوان” تنفيذ برنامجهم وتحقيق المعادلة الصعبة التي طمحوا بإنجازها، من تحالف مع العسكر من خلال استرضائهم والمحافظة على مصالحهم وامتيازاتهم، وكسب الأزهر لطرفهم عبر إعطائه حقّ النقد، وتطبيع علاقاتهم مع الملالي ليفرضوا دولتهم كموقع التوازن الجديد في المنطقة بعد انهيار النظام السوريّ؟ بحسب المنطق ذاته كنّا سنجد القائلين بسذاجة “الأخوان”، يطنبون في مديح ذكائهم ولا يبخلون بالإعجاب بما سيعتبرونه مناورة ذكيّة مكّنتهم من تحقيق مآربهم، ولكنّا دخلنا في سنين عجاف أُضيف للاستبداد فيها بُعد عقائديّ، وأصبح أكثر قدرة على الاستمرار وأقل تأثّراً بالانتقاد.

نستنتج من مقاربات بُنيت على منطق الغلَبة لمجريات الحدث المصريّ الراهن، بناء على نتائجه، أنّ “الأخوان” أخطأوا لأنّهم لم ينتصروا. وهو ما يمكن تبريره بعودتنا معهم إلى منطق الغلبة. فمن يستأثر بالسلطة سنضفي عليه، وفق هذا المنطق، صفات العبقريّة وإن كان أبله، وأيّ ذكاء سياسيّ عند المهزوم يمكن إهماله طالما أنّه لم يوصله إلى النتائج التي يتوخّاها.

منطق آخر تفترضه الأمانة للأفكار المؤسّسة للربيع العربيّ، يتمحور حول الخبز والحريّة والعدالة الاجتماعيّة والديموقراطيّة والمشاركة السياسيّة. الأقانيم التي لم يفعل “الأخوان” شيئاً من أجل بعضها، وناصبوا بعضها الآخر، الحريّة والمشاركة السياسيّة على الأقل، العداء؛ بينما سطّحوا الديموقراطيّة لتكون صناديق اقتراع ما داموا ضامنين نتائجها. في الوقت الذي كانوا يستميتون فيه لاسترضاء الجيش، ويعملون كلّ ما في وسعهم لتوطيد أركان حكمهم. منطق يجعل الأولويّة للحقوق، وينظر إلى التحالفات والسلوك السياسيّ على أساسها. إنّ اعتماد هذا المنطق سيساعدنا في تسليط الضوء على الاتفاق الذي حصل بين “الأخوان” والعسكر، والذي بموجبه وصلوا إلى الحكم، ثم مرّروا الدستور من دون اهتمام برأي الأقليّة السياسيّة، ما عُدّ لحظة القطع مع القوى المدنيّة، فباتوا مكشوفين تحت رحمة الجيش. في تلك اللحظة بالضبط خان “الأخوان” الثورة، إذ ثبّتوا أنّ من ليسوا في الحكم لا يحقّ لهم المشاركة في القرار، ولا تُراعى مصالحهم، بينما كانت الثورة من أجل جعل فضاء الدولة للجميع. وهم فعلوا ذلك بعدما اطمأنّوا إلى أنّ الجيش سيكون معهم وسيدعمهم، بينما ثبت أنّ قادته كانوا ينتظرونهم بهدوء كي يخسروا الجميع قبل أن ينتهي دورهم ولا يعود هناك حاجة لهم في مسيرة الاجهاز على الثورة. وبدل أن يراجع شيوخ “الأخوان” وشبابهم ما اقترفت أيديهم، ويفتّشوا عن سبل التراجع عن خطيئتهم وأسبابها، ويعمدوا إلى ترميم الفجوة في وعيهم بإجراء الإصلاح الدينيّ، قرّروا أن يلعبوا ورقة التطرّف ليضبطوا تنظيمهم وقاعدتهم على مظلوميّة تنسيهم الحاجة إلى محاسبة المسؤولين عن خيانة الثورة وفقدانهم الحكم بهاتين السرعة والطريقة.

تقدم مصر على مرحلة عصيبة؛ فالثورة الإصلاحيّة التي أطاحت رأس النظام وبطانته الفاسدة، احتاجت لاستكمالها وصول قوى جمهوريّة ديموقراطيّة إلى الحكم تمتلك برنامجاً واضحاً لإدارة ملفاته المعقدة على الصعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والثقافيّ، إلا أنّ ما حصل هو العكس تماماً؛ فمع وصول “الأخوان” إلى الحكم وشراهتهم للسلطة، وعجزهم عن بناء بيئة عمل سياسيّ تشاركيّ لا خاسر فيها، واختيارهم بدلاً من ذلك التحالف مع المؤسّسة الأكثر عداء للديموقراطيّة، سارت مصر في طريق الثورة المضادّة ليكملها قادة الجيش بمفردهم، عندما وصلوا إلى حيث انتفت حاجتهم للشراكة مع “الأخوان”. وإذا كان من الصعب التنبّؤ بتفاصيل المرحلة المقبلة، إلا أنّ الإطار العامّ انهياريّ؛ طالما أنّ “تحالف الضرورة” بين الإسلاميّين والقوى الديموقراطيّة الذي أتاح الثورة، قد فكّك “الأخوان” عراه؛ ويغلب الرأي بأن يعجز العسكر عن حلّ مشكلات مصر على المدى المتوسط، رغم حصولهم على الدعم الوافر من بعض الدول الخليجيّة، فالسوق الذي تفاءل بالتخلص من سطوة المافيات السلطويّة الفاسدة، ليس من المتوقّع أن يستقرّ بعودتهم، والقطاعات الاجتماعيّة التي امتلكت صوتها بعد طول منع للتعبير عن مصالحها لن تتخلّى عنه، وستعود إلى مسارها المطلبيّ متجاوزةً حال الإرباك السائدة موقّتاً، وإدارتهم عمليّة إصلاح قسريّة لن تتلّقى الترحاب الغربيّ كما كان يحصل في زمن الحرب الباردة. لن يكون تسرّعاً القول إنّ قيادة الجيش ستتعرّض لضغوط كبيرة من أجل إعادة الحكم المدنيّ. في كلّ الاحتمالات، الضرورة تطرق جدار الخزّان من أجل ثورة ثقافيّة تتضمّن إصلاحاً دينيّاً كونها حاجة لا غنى عنها للخروج من التاريخ الدورانيّ وما يرافقه من عنف وقهر.

كاتب فلسطيني سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى