صفحات سوريةميشيل كيلو

نكبتا العرب

 


ميشيل كيلو

بعد عام 1948 وقيام الكيان الصهيوني، اعتدنا نحن العرب أن نتحدث عن نكبة فلسطين باعتبارها نكبتنا الوحيدة في العصر الحديث، كأننا لم ننكب بغيرها، أو كأن نكبتنا محض خارجية  ومن صنع أغراب وأجانب فقط .

ومع أن فلسطين نكبة فظيعة، فإن حديثنا عن النكبة كنتاج للمشروع الصهيوني وحده يضمر مغالطة حقيقية، تجعلنا غير مسؤولين عن وقوعها، أو تجعل مسؤوليتنا عنها محدودة، مع أن هذه النظرة إلى حالنا تخالف الواقع والتاريخ والحقيقة، وتفوت علينا فرصة وعي ما شاب مواقفنا وخياراتنا من عيوب وأخطاء ونواقص جسيمة، وتجعلنا نركن مطمئنين إلى دورنا في الماضي القريب وحاضرنا الراهن، باعتبار أن ما فعلناه كان، وهو اليوم كذلك، كل ما كنا نستطيع فعله، ليس فقط للخروج من نكبة عام ،1948 وإنما أيضاً للخروج من نكبات كثيرة يلخصها واقعنا القائم، الذي هو بحد ذاته نكبة لا تقل نتائجها في حياتنا خطورة عن النتائج التي كان يمكن أن تترتب على أي غزو خارجي ونكبة أجنبية  .

لن أطيل في شرح مفردات النكبة العربية الأخرى: الداخلية، الوطنية والقومية، لاعتقادي أن ثورتي شعبي مصر وتونس قد كشفتا أبعادها، حتى بالأرقام . ويكفي أن يقرأ المرء حجم الثروات التي استولى عليها حكام – جميع حكام – هذين البلدين، حتى يضع يده بالملموس على حجم النكبة التي حلت بشعبيهما على يد من كان يفترض أن يتدبر أموره ويسوس شؤونه، لخيره قبل كل شيء . كما يكفي أن يقرأ الإنسان نبأ اعتزام الرئيس السابق حسني مبارك الاعتذار إلى الشعب عما ألحقه ببناته وأبنائه من أذى، وتعهده أن يتخلي عما استولى عليه من ثرواته، حتى يدرك في أية نكبة كانت مصر طوال قرابة ثلاثين عاماً من حكم فرد واحد وأسرته وزبانيته، لم يتوقف إعلامه خلالها عن الإشادة بمناقبه ومزاياه باعتباره مثالاً للنزاهة والشرف، بينما لم تقلع مخابراته عن تعذيب كل من كان يشكك في أمانته ووطنيته، أو يتناولهما ولو مجرد تناول بالنقد .

أخيراً، تكفي نظرة إلى قائمة اللصوص الذين كانوا يسمون وزراء ومديرين وقادة، ويمتدحون من إعلاميين مأجورين يشاركونهم في نهب الشعب وتضليله، حتى نفهم أن هؤلاء لم يعملوا في أي موقع إلا كي يحشوا جيوبهم، وأن الخدمة العامة لم تكن تعني في نظرهم أي شيء آخر غير اللصوصية، وأنهم استهانوا خلال عملهم بسائر القوانين، وداسوا جميع القيم والأعراف الوطنية والإنسانية، ومارسوا شتى الجرائم، وضحوا بحياة مواطنيهم ولقمة أطفالهم، لينتزعوا الزاد من أفواههم، ويسرقوا ثروات الوطن ويفقروه، لأنهم رأوا في تعاظم ثروتهم تعاظم  نفوذهم، وفي تعاظم نفوذهم السبيل إلى زيادة ثروتهم وسطوتهم وهكذا دواليك، بينما بقية خلق الله يشقون ويكدون للحصول على رغيف لا يني يفر من أيديهم، أو بالأصح يسرق منها، على أيدي أولئك الذين كان يجب  – ويفترض بهم – أن يكونوا مؤتمنين عليه .

هذه بعض ملامح نكبة الداخل في بلدين عربيين، أما نكبة الخارج، خاصة في المجال القومي، فتتلخص بكل اختصار في تحول الأخ إلى عدو مكروه ومحارب، والعدو إلى رفيق وشقيق أكبر له حق الأمر والنهي . هذا الوجه من نكبة العرب ترجم نفسه من خلال علاقاتهم العدائية ببعضهم بعضاً، وتعاون معظم نظمهم ضد شعوبهم، وفي قبولهم عودة كثير من مظاهر الاحتلال إلى مناطق مختلفة من وطنهم الصغير والكبير، وتحولهم إلى مذنبات صغيرة تدور في فلك الكواكب الأجنبية العظمى، التي تلاعبت بهم وبأقدار بلدانهم، وسلبتهم أية قيمة ذاتية، وجعلت منهم “أراجوزات” هجينة لا تعرف إن كانت عربية حقاً أم مستجلبة إلى عالم العرب ومفروضة عليه . هكذا، انقلبت المعايير والقيم، ودخل العرب في متاهة خلافات وتناقضات قاتلة، أبرزها ثلاثة:

* التناقض بين حكوماتهم، الذي تحول بمرور الزمن إلى تناقض أريد تعميقه كي يصير تناقضاً بين شعوبهم (المثال: علاقات العراق وسوريا البعثيتين) .

* التناقض بين حكوماتهم وشعوبها، الذي انفجر مرات متتابعة في أكثر من مكان، حتى قيل إنه يشبه تناقض حكومة احتلال مع الشعب المحتل .

* التناقض بين مكونات المجتمعات العربية، التي كثيراً ما فقدت وحدتها الداخلية وتحولت إلى مجاميع تترابط بالشدة والقسر والقمع، فإن ارتفعت يد السلطة عنها مزق بعضها بعضاً، علماً بأن تفتتها كان فعلاً من أفعال هذه السلطة بالذات .

. . . واليوم، تلوح في أفقنا علامات تشير إلى أننا نغادر النكبة الثانية، نكبتنا التي تسببنا نحن أنفسنا بوقوعها، ونجم جزء كبير منها عن عجزنا وهزيمتنا أمام المشروع الاستيطاني الصهيوني من جهة، والغربي من جهة أخرى  . ألا يجب أن يؤذن كسر الحد الداخلي من نكبتنا المزدوجة بأيدي وإرادة الأجيال الجديدة من أمتنا، وخروجنا من الاحتجاز المديد والمتشعب، الذي قادنا إلى حال من الانهيار الحثيث نأمل جميعاً أن يضع التغيير الراهن نهاية له، ويفتح أمامنا من سبل التقدم وممكنات التطور، ببداية خروجنا من النكبة الأولى، نكبة فلسطين، التي ترتبت على عجزنا ولعبت دوراً مهماً في دفعنا إلى هاوية الفشل، ولا بد أن يصير الخلاص منها من الآن فصاعداً بداية عودتنا إلى ذاتنا، لتخطي جميع جوانب النكبة الداخلية، الذاتية، وفي الوقت نفسه بداية النهاية للمشروع الصهيوني وكيانه الاستيطاني ولعودة فلسطين عربية حرة إلى مكانها المحوري من أمة عربية حرة؟

تنفتح مع تطورات الوطن العربي الراهنة دروب كنا نحلم بشقها، وها هي تصير اليوم في متناول أيدينا، إن نحن واصلنا طريق التغيير وأكملنا سيرنا إلى خارج المأزق الذي غرقنا طويلاً فيه، وكان معظمه من صنع أيدي من تولوا أمورنا  . ومع أنه يصعب الآن تلمس منطويات هذا الطريق بالتفصيل، فإن بالإمكان القول، بوجه عام، إنها ستأخذنا إلى زمن عربي جديد، سيكون من الصعب جداً أن نتعايش فيه مع عدو “إسرائيلي”، أو سيطرة خارجية، أو امتهان داخلي: زمن عربي للحرية والكرامة والإنسان، هذا الثالوث الذي لا يجوز أن ينفصل بعد الآن، لأن المواطن العربي، الذي لطالما ذاق ويلات الافتقار إلى حريته وكرامته وإنسانيته، وتعلم من خبرته الخاصة كيف يستعيدها، وشرع يستعيدها بالفعل عبر تضحيات غالية، لن يسمح لأحد بعد اليوم بانتزاعها منه . يبقى أن نركز أنظارنا على النكبة الفلسطينية، بعد أن أخذنا نغادر النكبة العربية، ويبقى أن نمنحها ما تستحقه من أولوية في مواقفنا العملية ورؤانا النظرية، وأن نعتبرها بالفعل لا بالقول قضيتنا المركزية، التي تتوقف عليها بقية مسائلنا، التي لا يجوز أن نعالجها منفصلة عنها، وإلا كررنا خطأ الماضي وتمكن أعداؤنا من استفرادنا وإنزال الهزائم بنا من جديد، مع ما سيترتب على ذلك من نتائج ودلالات قاتلة، قد لا يكون سهلاً خروجنا منها، إن نحن فشلنا هذه المرة .

كانت فلسطين محك الواقع العربي، وها هي تستعيد مكانها منه ضمن حاضنة جديدة تبدله تبديلاً عميقاً . فلنحرص على أن نراها ونتعامل معها في ضوئه، ولنكن في مستوى تحدياتها، لأول مرة في تاريخنا الحديث، كي نخرجها بحريتنا من نكبتها، بعد أن أطاحت نكبتها حريتنا إلى الأمس القريب

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى