صفحات الثقافة

نمْ كالنسر/ مناهل السهوي

 

 

الحرارة اليوم تقترب من 45 درجة مئوية، هذه المدينة فرنُ واسع والناس أرغفةُ خبزٍ ساخنة تمشي على الأقدام، لم تكن الحرارةُ المرتفعة يوماً أمراً يتعلق بالطقس وحسب، الأمر يتعلق بأن أسقط مغمى عليّ في أي مكان عام لأستفيق وعشرات الوجوه تنظر نحوي واحدهم يمسك قنينة الماء ويصبها فوق رأسي، كلّ محاولاتي لتخفيف ذلك باءت بالفشل، أمور آنية لا تعيدك إنساناً طبيعياً، وخلال هذا الوقت ستعجز عن فعل أي شيء، وخصوصاً مع الغياب الطويل للتيار الكهربائي، أدرك أني أتحدث دوماً عن انقطاع الكهرباء لكن لا جدوى من أيّ شيء دونها، لا وقت لقراءة كتاب وأنت تشعر برأسك يتحول لعود ثقابٍ لا ينطفئ، ولا مجال لكتابة أي شيء وأنت تهرب كلّ ساعة نحو مرش المياه أو لمروحة اليد، مروحة اليد التي غدت حلّاً بدائياً في كلّ مكان، في المنزل، وأنا مستلقية، في الباص، في الشارع، مروحة اليد التي جعلتني كونتيسة من القرن الثامن عشر ترتدي فستانها المنفوخ والمروحة في يدها، محركة إياها بخفة، وتمشي في شوارع دمشق، لكن الأمر يختلف هنا والعيون المستغربة تجعلك تتساءل هل حقاً الناس هنا تهزأ منك حتى وأنت تحترق، ثم تلجأ إلى حلول تتعلق بقوانينَ ومعادلاتٍ صغيرة تخفف حرارة جسدك بها، حتى لو كان بشكل طفيف وآني، كأن تستعين بكيس مياه بارد، هو ذاته الذي استخدمته في الشتاء القارس حين ملأته مياه ساخنة، تعانقه وتنام، ستفهم أن أماكن النبض في جسدك تساعدك على التخلص من الحرارة المرتفعة إذ ما وضعت عليها قطع الثلج، على الأقل هذا ما قرأته في مقال “كيف تتجنب حرارة الصيف المرتفعة أثناء النوم وخصوصاً عند انقطاع التيار الكهربائي” كان الأمر جدياً حتى إني سجلت بعض الملاحظات على دفتري وذهبت للصيدلية اشتريت كيس ماء وغيرت أغطية الفراش للقطن والبوليستر تلك التي يدخل الهواء من خلالها، فأنا أريد حقاً أن أنام، أغرب ما قرأته عن نصائح لنوم هانئ في بلاد مشتعلة هي نصيحة “نم كالنسر” الأمر لم يبدو لي غريباً بسبب شكل الجسد خلال النوم، ولم أتذكر رجل دافنشي، بل لأن ذلك يشبه الكثير من القتلى في هذه البلاد، كلهم استلقوا على ظهورهم، الأيدي والأقدام مفتوحة كالنسر، هل من يموتون يسمعون نصيحة نم كالنسر! أم فقط من يودون النوم في درجة حرارة تصل إلى 50 درجة مئوية! فتحت يديّ وقدميّ على السرير، سيبرد جسدي وسأنام، لكن لمَ لمْ أتخلص بعد من صورة الرجل المقتول بوضعية النسر؟ لمَ الطفل الذي أطلقوا الرصاص عليه وهو يهرب مات بذات الطريقة مع اختلاف أن رأسه كان للأسفل ولمَ المرأة التي أصابتها شظية استلقت بذات الطريقة! ولم أنا الآن أشبههم جميعاً؟

شعرت بالذعر وبحاجةٍ لأن يعود جسدي لحرارته الطبيعية، دون أن أشبه أي شيء، دون أن أستخدم مروحة الكونتيسة ودون أن أرمي الكتب نزقاً من الجو الخانق، وبات السؤال الملح كيف يختار الموتى وضعياتهم الأخيرة حتى تتلاشى حرارتهم شيئاً فشيئاً؟ هل البلاد الملعونة بالحرب والحرارة العالية تختار لسكانها وضعيات متشابهة في الموت والنوم، وهل أحتاج مقالة علمية لأتمكن من النوم الذي هو في الأساس أمر صعب ومرهق!

عادت الكهرباء منتصف الليل، اشتغلت مروحة السقف، وبدأتُ أجفف جسدي من كل الروائح التي علقت به خلال محاولتي النوم كنسر، روائح الدم والقتلى والبارود والركام، ابتسمت للسقف من حيث يأتي القليل من الهواء البارد، ضممت قدمي نحو بطني، وضعت يدي تحت رأسي، وعدت لوضعية نومي الطبيعية، على شكل “جنين”، من الجيد أن تأتي الكهرباء قبل أن تغفو، على الأقل كي لا تشعر أنك تدخل الموت كما الصورة العالقة في رأسك لرجلٍ مقتولٍ كالنسر!

*شاعرة من سورية

ضفة ثالثة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى