صفحات الرأي

نهاية الاسلام السياسي/ محمّد علي مقلّد

 

 

الاسلام السياسي يلفظ أنفاسه الأخيرة لكن ، لا تخافوا على الدين ، أيها المؤمنون. تلك هي الكنيسة حية ترزق بعد أن انسحب الاكليروس إلى ثكناتهم ، بل يمكن القول إنها جددت نفسها يوم قررت الخروج من بطن السياسة؛ وتمهلوا أيها المتفائلون، فلا هذا هو حكم متسرع على الاسلام السياسي ، ولا موته سيكون بين لحظة وأخرى ، فالزمن في عمر التاريخ لا يقاس كما أعمار البشر بالأيام والسنوات .

يبلغ عمر الاسلام السياسي حوالي قرنين ونصف من الزمن ، وقد بدأ مع الوهابية . قبلها كانت عصور الدولة الدينية المسيحية والاسلامية والبوذية والهندوسية والفرعونية من قبلها ، المحكومة بالفكر الديني وليس من قبل رجال الدين ، وقد بدأت هذه الدولة تنحدر نحو نهايتها في أوروبا منذ حركة الاصلاح الديني ، أي في القرن السابع عشر.لم تكن الثورة الفرنسية سوى محطة مهمة وعلامة فارقة في مسار انهيار حكم الكنيسة.

“الكنيسة الاسلامية” تذرعت بوجود حالة من التخلف المعممة من مشرق الأمة إلى مغربها بينما كانت تسود نهضة على الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط ، بلغ وهجها سفوح الأمة الاسلامية انطلاقا من عاصمة الدولة العثمانية . ردا على هذا الانجاز الأوروبي وخوفا على الدولة التيوقراطية المشرقية من الانهيار انكمش التخلف على ذاته ، وتأسست بذريعته حركة اصلاحية لم تطرح في برنامجها غير بنود متعلقة بالطقوس الدينية ، بينما كانت أوروبا تستجيب لمتطلبات التطور المادي الاقتصادي والمالي والعلمي والاجتماعي، الذي حفر خندقا عميقا فاصلا بين المجتمع والفكر الكنسي .

المدخل إلى انهيار الدولة الدينية هو ، إذن ، فتح باب التطور على الحضارة الرأسمالية . وبداية نهايتها هو قيام نظام سياسي منبثق عن هذه الحضارة عنوانه حقوق الانسان الفرد والدولة المدنية والديمقراطية وتداول السلطة ، وهي كلها مسارات بذلت في سبيلها كل أنواع التضحيات.

في بلادنا أوصدت الأبواب أمام هذا التطور وحملت لواء هذه المهمة قوى قومية ويسارية عادت التطور الأوروبي من بابه السياسي فألغت بذور الديمقراطية اليافعة في مرحلة الاستقلال ، ثم تذرعت بمواجهات مع أعداء خارجيين ، وبصورة خاصة مع العدو الصهيوني ، فأسدلت الانقلابات العسكرية الستار نهائيا على أي منحى ديمقراطي ، وحصل تحالف موضوعي بين الأصوليات المعادية كلها للغرب : القومية لكونه غربا استعماريا ؛ واليسارية لكونه امبرياليا رأسماليا ؛ والاسلامية لكونه مسيحيا وماديا و ملحدا. وبديلا عن الآنظمة الديمقراطية قامت أنظمة الحزب الواحد والانقلابات العسكرية التي سمت نفسها ثورات ، والجمهوريات الوراثية ، فضلا عن أنظمة السلالات والممالك والإمارات والسلطنات.

شكل انهيار الاتحاد السوفياتي ، أول التسعينيات، بداية النهاية لانهيار الأصولية اليسارية في العالم العربي . كما شكل انهيار نظام صدام حسين بداية النهاية لأنظمة الاستبداد القومي والجمهوريات الوراثية ، ولم يكن إعلان الخلافة الاسلامية الداعشية سوى بداية النهاية لأحلام الكنيسة الاسلامية .

الأصوليات لن تموت بالتتابع ، فهي لم تولد بالتتابع . بل هي من رحم واحد ، رحم العداء لكل تنوع وتعدد، وخصوصا للتنوع داخل كل منها . فهي لم تكن تقبل الآخر حتى لو كان من طينتها وجلدتها، ولهذا تبرز اليوم على سطح هذا العداء كل بشاعات الاسلام السياسي بحق اسلام سياسي آخر ، مموها بالثوب الديني ومزودا بعدة القتل الثقافي المشتقة من النصوص ومن حبل طويل من التراث .

ولن تموت الاصوليات إلا حين يقوم البديل واضحا كالشمس : نظام ديمقراطي يقوم على الاعتراف بالآخر ، أيا يكن معتقده أو دينه أو انتماؤه السياسي أو منبته الفكري والإتني واللغوي.

بالرغم من أن دروب الثورة طويلة ومتعرجة ونأمل ألا تكون مكلفة ، إلا أن آفاق الربيع العربي انتفحت على نهاية غير بعيدة للأصوليات في العالم العربي، كل الأصوليات المتمثلة بالأنظمة القومية واليسارية والدينية وبكل أنواع الحكم الوراثي ، وستقصر المهلة كلما تعمم اليقين باستحالة إرغام التاريخ على التوقف أو على العودة إلى الوراء . وإن كان من الممكن تحديد بداية النهاية ، فلأن الظاهرة بلغت ذروتها بإعلان الخلافة والتبشير بالعودة إلى التوحش ، أما النهاية فلا تحددها التكهنات ولا التمنيات .

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى