صفحات الثقافة

نهاية سعيدة لفيلم سوري طويل


ليندا حسين

1

توقّفت عقارب ساعتي عند الخامسة إلّا ربع، وهو التّوقيت الذي قرأت فيه رسالة “ز”، التي أرسلها ليخبرني بوصوله الآمن إلى بيروت. غادر” ز” سوريا في بداية الثّورة ولم يعد.

صدفة غريبة جعلت السّاعة تتعطّل في ذلك التّوقيت.

كنت أفكّر أنّ هذا التعطّل العزيز هو كلّ ما تبقّى من “ز” وبينما يدور الزّمن السّوري بسرعة هستيريّة، يقف زمني الشّخصي عند الخامسة إلّا ربع، وكنت أؤمن أنّ عقارب السّاعة ستعاود الدّوران بعودة “ز” وبقيّة الأصدقاء، إلّا أنّ مرور كلّ هذا الوقت جعل السّاعة تصدأ، وجعل من المستحيل عودة العقارب للدّوران من جديد.

*** ***

2

تنقصني طاولة صغيرة وسجّادة وكؤوس بديلة عن الكؤوس المكسورة في البيت.

لكنّني لن أشتري هذه الأغراض، فقد أضطرّ لمغادرة البيت في أيّة لحظة كما حدث لكثير من العائلات في البلدات المجاورة.

يستحسن أن أوفّر النّقود لظروف قاسية مقبلة.

ما يزال بالإمكان الذّهاب للعمل. الأصدقاء خارج سوريا يستغربون هذا، فهم يعتقدون أنّ السّوريين يعيشون اليوم في دبّابة.

نحن لا نعيش في دبّابة، لكنّنا نصادف دبّابات تقريبا على جميع الطّرق التي نسلكها، ولا يمكن لك أن تتأقلم مع منظر دبّابة، فهو لن يتوقّف عن تذكيرك بعضو ذكري مشرئبّ وجاهز للاغتصاب.

تقريباً كلّ الأسلحة تذكّر بالأعضاء الذكريّة. هناك هذا الأنبوب المشرئبّ، وهناك مخزن للطّلقات ـ النطاف التي لا تحمل معها وعدا بالولادة، بل وعدا بالموت.

*** ***

3

تتّصل بي صديقتي “ف” التي تصف ما نحن فيه بالحرب الأهليّة لتشجّعني على مغادرة “هذا المكان الخطير”.

أحيانا وخصوصا في الأسابيع الأخيرة صرت أفكّر باقتراحها. لكنّني لا أزال أهرب من الفكرة، بدلا من الهروب من البلد.

قلت لـ “ف” ألّا تقلق، وشرحت لها كيف تأقلم السّوريون بسرعة مع الأزمات المتلاحقة. لكن “ف” تعتقد أن هذا مؤشّر سيّء.

فالتأقلم يعني الاستسلام وتقبّل أمور لا يجب تقبّلها ويعني أيضاً أنّنا نفقد قدرتنا على التّمييز ونفقد وعينا بحقوقنا.

*** ***

4

التنقّل هنا لم يعد آمنا. منذ بضعة شهور أفرض على نفسي حظر تجوّل مبكّر بسبب حوادث الاختطاف وشيوع الجريمة وخوفاً من التّفجيرات التي كثرت في الآونة الأخيرة.

خارج أوقات العمل أكون وحيدة معظم الوقت، إلّا من لقاءات متفرّقة مع من تبقّى من الأصدقاء. معظم الأصدقاء خارج البلد الآن.

ومن المنطق في ظلّ وجود مئات آلاف المهاجرين والمهجّرين في الخارج أن تكون سوريا بلدا مهجورا، وأن نكون نحن بشرا مهجورين.

*** ***

5

إنّهم يقصفون الحيّ، وأقترح على “ن” أن يخرج فورا من “ذلك المكان الخطير”.

يرفض “ن” الخروج، فهو لن يترك بيته عرضة للسّرقة والنّهب، ثمّ إلى أين سيذهب؟

خسر “ن” جيراناً له أثناء القصف، لكنّه لا يحبّ سرد هذه الحادثة، ويفضل عليها حكاية البيت المكوّن من ثلاثة طوابق، والذي أصابته قذيفة في وقت صادف فيه غياب جميع سكّانه عنه.

لم يصب أيّ منهم بأذى.

إنّها أسعد نهاية يمكن أن تختم بها حكاية سوريّة اليوم.

* أوكتوبر 2012

 دمشق

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى