مراجعات كتب

هابرماس.. تفطن مبكر لضرورة تخليص الحياة السياسية من التعصب/ أمين بن مسعود

 

 

تنبع قوة الآثار الفكرية والكتب من الإضافة التي تحدثها أو من القطيعة التي ترسمها مع مراحل سابقة، أو من قدرتها على ابتكار مفاهيم جديدة تكون فارقة ومحددة في فهم حياة الناس. يورغن هابرماس الفيلسوف الألماني، واحد من المفكرين الذين أثّروا في تاريخ الفلسفة والفكر الإنسانيين. على كثرة مؤلفات يورغن هابرماس وتعددها، إذ فاقت الـ25 كتابا بدءا من ستينات القرن الماضي فضلا عن العديد من المقالات والدراسات، إلا أن مفهوم “المجال العمومي” ظل منجزه الرئيسي الفارق. توصل هابرماس إلى تشييد نظرية فكرية وفلسفية تنهض على إطار شامل للنظرية الاجتماعية والتصوّرات الفلسفية التي نجح خلالها في استدعاء مدوّنة فكرية ثرية تتمثل في الفكر الفلسفي الألماني (مثل إيمانويل كانط وهيغل وهوسرل وغيرهم)، وتقوم أيضا على توظيفه للتقاليد الماركسية والنظرية النقدية الجديدة لمدرسة فرنكفورت، إضافة النظريات الاجتماعية لماكس فيبر وإيميل دوركايم وغيرهما، فضلا عن التقنيات التي وفرتها المدرسة اللغوية ونظريات تحليل الفعل الخطابي. نجح هابرماس في توظيف كل هذه المدوّنات وصهرها لينحت العديد من المفاهيم الجديدة التي كانت ولا تزال أداة ضرورية في فهم الراهن الاجتماعي والسياسي، رغم كل ما تعرّضت له من نقد ومراجعة (حتى من قبل هابرماس نفسه). الفضاء العمومي كما نظر له هابرماس “يقوم بالدرجة الأولى بمهمة المراقبة كما يمكن أن يمنع بواسطة النقد العمومي إمكانية القيام بمشاريع غير متلائمة مع القواعد العامة”. ربط هابرماس بين الفضاء العمومي والدعاية من خلال التصوّر بأن “الدعاية نجحت في العصر الحديث من خلق وسيلة أخرى للتواصل وقامت بتكوين مذهب علائقي جديد، أو نمط واسع وراسخ من الاتصالية، فالدعاية حاليا قد غدت واقعا فعليا وليس معطى، لأنها أصبحت بحد ذاتها أساسا ومصدر لمعطيات جديدة، فقد شملت كل شيء، حتى النظام السياسي الذي أفرزها قد سقط داخل نطاق احتوائها، وذلك عبر تطوّرها السريع والمذهل أفقيا على أرضية الواقع السياسي وعموديا داخل هرمية المؤسسات”. ورغم أهمية كتب هابرماس إلا أن الأثر المهم في مشروعه الفكري والفلسفي، هو بلا شك كتاب “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكّلا للمجال العمومي في المجتمع البرجوازي”، الذي أصّل فيه مفهومه الجديد، والذي يظل صالحا لفهم وتدبر المرحلة الراهنة، ويظل مفيدا لفهم العلاقة بين السلطة والإعلام ومجال النقاش العمومي.

سجال الفلسفة والسياسة من أجل المستقبل

يعتبر كتاب “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكّلا للمجال العمومي في المجتمع البورجوازي” نقطة مفصلية ومنعرجا في تاريخ الأفكار السياسية والمقاربات المعرفية، لا فقط لطبيعته العلمية المحكمة حيث أنه كان رسالة الدكتوراه للفيلسوف الألماني يورغان هابرماس في سنة 1962، ولكن وهو الأهم لأنه أصل لبراديغم علمي وهو “المجال العمومي”، والذي بات نقطة تجاذب ونقاش حول طبيعته وكينونته وتداعياته على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان.

ذلك أن كتاب “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكّلا للمجال العمومي في المجتمع البورجوازي”، والذي ترجم للعشرات من اللغات ونُسخت منه العشرات من الطبعات من عدة دور نشر في أوروبا والولايات المتحدة، يجسّد واحدا من أكثر المؤلفات إثارة للجدل الفكري والنقاش الفلسفي، حيث أن براديغم “المجال العمومي” جسّد الخيط الناظم لـ”دمقرطة” الحياة العامة وللتعددية الفكرية والثقافية والسياسية، وبات يعّد واحدا من أهم مؤشرات “الحرية الإعلامية” والانتقال الديمقراطي.

استنبات المفاهيم

وعلى عادة المؤلفين المعتبرين الذين يستخرجون من صيرورة التاريخ الإنسانيّ نماذج تفسيريّة قادرة على تحليل وتحديد جزء من الظاهرة الإنسانية المركبة والمعقدة، ومؤهلة على تقديم تصوّر معرفي للأنسنة، استخرج هابرماس من صالونات ومقاهي ومطاعم الطبقة البورجوازية في أوروبا الغربية خاصة (فرنسا وإنكلترا) إبان القرنين السابع عشر والثامن عشر، والتي كانت فضاءات للحوار والنقاش العام والمفتوح نسبيا، بالنظر إلى طابعها الطبقي الحصري، نموذج “الفضاء العام” بما هو الحيّز الخصب للتداول الحر والنقاش العقلاني والحجاجي في القضايا التي تهم الشأن العام.

أهمية براديغم هابرماس في هذا السياق أنها أسست لمجال بورجوازي ديمقراطي نسبيا، في مقابل السلطة الأرستقراطية وحكم الكنيسة المطبوعتين بطابع الاستبداد والشمولية والأحادية، الأمر الذي مكّنه من تصيير فعل المناقشة والتداول الحر والعقلاني والحجاجي للقضايا العامة إلى فعل صناعة رأي عام، حيث أن “الأخير” يصاغ وفق هابرماس عبر قاطرة اختيار العامة للأفكار والآراء الأقدر على التأصيل والمتضمنة لأعلى قدر ممكن من المحاججة.

هابرماس وضع نقطة البداية للمجال العمومي ونقطة النهاية للمفهوم، داعيا إلى إنقاذ المجال العمومي من براثن الشعبوية والإثارة والتعصب

هكذا، تمكّن هابرماس من رصد براديغم “المجال العمومي” في التاريخ الوسيط وحفر عميقا عبر أدوات تاريخية وسوسيولوجية دقيقة وصارمة في سبيل بيان أن المجال العمومي يقوم على أساس التوسط الرمزي بين السلطة والشعب، وأنه فضاء التداول بين الفاعلين وسياق النقاش العقلاني بين الآراء عبرها تتحوّل الآراء العقلانية إلى آراء عامة.

وعلى الرغم من كل ما سبق فإن اعتبار كتاب “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكّلا للمجال العمومي في المجتمع البورجوازي” مدوّنة علمية فكرية غير مسبوقة واستثنائية، وغير مربوطة بما سبقها، حكم معرفي فيه الكثير من المجازفة ومن مجانبة تاريخ الأفكار، ذلك أن هابرماس أصّل لبراديغم المجال العمومي من خلال ارتسامات ابستيمية سبقته ومقولات معرفية كبرى كانت قادحة في اجتراح البراديغم برمّته.

ولئن رُمنا التأريخ لكتاب هابرماس المذكور، فإنه من الضروري الانطلاق عبر رسالة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط للقسيس جوهان فريدريك زولنر والتي جاءت بعنوان “ما هو التنوير”، حيث دافع كانط في رسالته عن حق الأفراد في الاستخدام العلني والعمومي للعقل.

رحلة التنقيب على الروافد الفكرية لكتاب هابرماس تقودنا بالضرورة إلى المشرب الفكري الثاني لمقولة المجال العمومي والمتجسدة في أشغال السوسيولوجي الأميركي روبرت ميد، خاصة في نظريته في التفاعل الرمزي بين “الأنا والآخر” حيث وظّف هابرماس أسس نظرية التفاعل الرمزي وخاصة علاقة “التذاوت” في النقاش العمومي الذي يمثّل الاعتراف المتبادل المناقض للإقصاء والاستبعاد أحد أهم ركائزه.

وبين السوسيولوجي الأميركي والفيلسوف الألماني، وروافد أخرى لا مجال هنا لذكرها ولسردها، أصّل هابرماس لبراديغم المجال العمومي الذي استأثر بالنظر وأثار حوله الكثير من المقاربات النقدية والسجالية والمتواصلة إلى يوم الناس هذا.

الملاحظ أن هابرماس لم يقف في قراءته التاريخانية للبراديغم عند لحظة اجتراح المجال العمومي، بل واصل عملية الرصد والمحايثة، حيث يشير في كتابه إلى أن القرن التاسع عشر والعشرين بالتحديد، كان لحظة “اهتراء” المجال العمومي بما هو رافعة للنقاش العقلاني وتأسيس المجال العموميّ الديمقراطي والتعددي.

إذ يعتبر الفيلسوف أنّ دخول الصناعات الإعلامية على الخط، وانخراط المؤسسات الإعلامية في الإثارة عوضا عن الإنارة والتكالب على الجمهور من أجل تأمين الحدّ الأعلى من العائدات المالية، واعتماد المراوغة عوضا عن المحاججة واستثارة القضايا الهامشية عوضا عن القضايا العامة، حول الفضاء العام إلى ضرب العقل والعقلانية واستباحة المحاججة والاستدلال في مقتل.

هكذا وضع هابرماس، نقطة البداية للمجال العمومي ونقطة النهاية للبراديغم، داعيا في كتابه الأطروحة إلى إنقاذ المجال العمومي من براثن الشعبوية والإثارة والتعصب ومخاطر تحويل الفضاء العام سيما في قنواته الإعلامية إلى مجال ضغط ونفوذ لرؤوس الأموال المالكين للمال والإعلام وبالتالي لصناعة “رأي عام” منحرف غير عقلاني وغير مسؤول.

أثار كتاب هابرماس، كما أشرنا آنفا، مدوّنة معرفية كاملة حوله حيث شكّل نقطة جذب معتبرة للعديد من الدراسات العلمية الأكاديمية ولرسائل دكتوراه أيضا في الموضوع، بل ومثّل أيضا خيطا ناظما لكافة كتاباته (أي هابرماس) حيث كانت مؤلفاته رجع صدى إن صح التعبير أو إحدى تفرّعاته.

المهم في هذا المفصل، أن المدوّنة النقدية لهابرماس جسّدت همّا فكريا معتبرا حول “المجال العمومي”. فالفيلسوف الفرنسي جون مارك فيري ألّف عدة مصنّفات وأدار عدة أشغال معرفية في الموضوع، حامت حول مقولة إن المجال العمومي الهابرماسي مجالا طوباويا معياريا أكثر منه واقعيا، وإن المجالات العمومية تقوم على أساس الواقع والراهن لا على أساس ما يجب أن يكون عليه.

بدوره، كانت لعالم الاجتماع الفرنسي جون لوي كيري مقاربات نقدية حول كتاب “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكلا للمجال العمومي في المجتمع البورجوازي”، دارت جلّها حول المثالية التي اصطبغ بها مقولة “المجال العمومي الهابرماسي” معتبرا أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال إخفاء دور البروز والتجلي (استقى كيري هذه الفكرة من المدوّنة المعرفية للفيلسوفة حنّا آرندت) في الفضاء العام كعامل من عوامل التأثير وصناعة الرأي، كما لا يمكن أيضا التغافل عن التفاعل بين صاحب الرأي والجمهور كمسلكية من مسلكيات التأثير عوضا عن الاستدلال والمحاججة.

من جانبها، جالت الأشغال المعرفيّة النقدية للفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر حول الإشكالية القطاعية، إن صحّ التعبير لبراديغم المجال العمومي الهابرماسي، منتقدة تلك العلاقة التلازمية التي أقامها هابرماس بين “المجال العمومي العقلاني والديمقراطي والطبقة البورجوازية”، مشيرة إلى أن هابرماس تجاوز ضمن قراءته التاريخية لتفاعل الطبقات الاجتماعية عدة مجالات عمومية عديدة كان لها الدور الأكبر في صناعة الرأي العام أكثر من المجال البرجوازي.

طريق نحو الديمقراطية

هنا تتحدث فريزر عن المجال العمومي للسود في أميركا زمن العنصرية حيث تمخّض عن اجتماع الحركة المناضلة للسود الأميركان تأصيلات معرفية ومقولات فلسفية حول المساواة والعدالة والديمقراطية الاجتماعية، كما تشير إلى المجال العمومي للنساء في فرنسا إبان نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين حيث تمّ توظيف الحوارات لإقرار مبدأ العدالة والمساواة بين الجنسين، إلى غيرها من المجالات الأخرى التي لم تمسحها المقاربة الهابرماسية في كتابه المذكور.

ودون المزيد من الإسهاب في القراءات النقدية لهابرماس، والتي صارت مدوّنة معرفية وعلمية، فإن الملاحظة الجوهرية والأساسية أن كافة الانتقادات سلمت بصحة براديغم “المجال العمومي” بما هو الوسيط الرمزي ما بين الدولة والمجتمع، وجالت كل تحفظاتها واحترازاتها حول مضامين المجال العمومي أو تاريخيته.

مراجعة المفهوم

والمهم أيضا أن كافة المدوّنة العلمية الخاصة بأثر هابرماس، لم تختلف أيضا حول قيمة “المجال العمومي” في الراهن الحالي، سيما في الدول التي تعيش مرحلة انتقالية وخاصة أيضا مع انتشار شبكات التواصل الاجتماعي واستحالة العالم إلى مجتمع شبكي مترابط مع بعضه البعض، ذلك أن توفر مجال عمومي ديمقراطي وتعدّدي يسمح بتداول الأفكار الحرة بات شرطا لإعلام مهني حرّ ومسؤول، ومقدمة حتمية لإقرار وتحقيق مجتمع مدني ديمقراطي.

اللافت هنا، أنه ومن بعد ثلاثين سنة كاملة من مناقشة ونشر رسالة الأطروحة لهابرماس والمعنونة كما ذكرنا “أركيولوجيا الإشهار بوصفه مشكّلا للمجال العمومي في المجتمع البورجوازي”، اختار الفيلسوف الألماني أن يطوّر من البراديغم، مستفيدا من المقاربات النقدية التي وجّهت له ومستأنسا بسياقات المجتمع الشبكي الراهن. حيث أصدر في 1992 أول مقالة بحثية تصحيحية بعنوان “مراجعات إضافية حول الفضاء العمومي” وهي المقالة البحثية التي ضمنها هابرماس أهم أفكاره الجديدة حول المجال العمومي قبل أن يتلوها بمؤلفه الثاني والمعنون “بين الحقائق والمعايير” الصادر في 1996.

وفي قراءة استيعابية لأدبيات المراجعة الهابرماسيّة لبراديغم “المجال العمومي البورجوازي” يلحظ تفرع التأصيل الجديد للمجال العمومي على 4 محددات “معرفية إجرائيّة” كبرى، وهي “المعيارية” و”الشرطية” و”الوظيفية” و”السياقية الإنتاجية”.

فلئن كانت القراءة الأولى للمجال العمومي قراءة معيارية نموذجية مثالية قد تصل في بعض الحالات إلى الطوباوية، فإن القراءة النقدية الثانية سعت إلى تبيئة المجال العمومي في السياقات الراهنة (لأوّل مرّة يستخدم هابرماس مصطلح الشبكيّة التواصلية كان في 1992، في مقابل أنّها الكتابات الأخيرة التي قرن فيها المجال العمومي بالبورجوازي) مع إفراده برهانات التغيير الديمقراطي عبر توسيع مجال الفعل التواصلي ومزيد إقرار الديمقراطية التداوليّة.

يؤكّد الكاتب المغربي نورالدين أفاية أن يورغان هابرماس يمثّل لحظة فكرية من أعمق لحظات الفكر الغربي المعاصر؛ فقد أصبح مرجعا، لا بد من الرجوع إليه، لكل من يهتم بالفلسفة والسياسة والتواصل.

قد تكون واحدة من أبرز العلاقات الفارقة في المنتج الفكري لهابرماس، أن الأخير أصل في كتابه المرجعي مفهوما فلسفيا بالإمكان تطويره من الداخل دون الخارج عنه، وبالإمكان تحسينه دون تقويضه، وتطويره دون هدمه.

يقال في الفقه، إنّ كل الفقهاء عالة على أبي حنيفة لما له من كعب عال في تأصيل الاجتهاد، وقد لا نجانب الصواب إن اعتبرنا بكثير من الحيطة والتنسيب أن معظم المدوّنة الفكرية والمعرفية خلال نصف القرن المنصرم تأثرت بأشغال هابرماس حول المجال العمومي.

صحيح أنّ الطابع التاريخي للمفهوم وقع تجاوزه بفرط حقائق المكان والزمان، ولكن المفهوم ظل راسخا والكتاب لا يزال إلى اليوم مرجعا لكل من يريد استقراء الماضي وتشوّف رهانات المستقبل.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

العرب

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى