صفحات الثقافة

هات من عندك يا ماركو بولو!

أمجد ناصر

رأينا، نحن الذين كُتِبَ علينا الترحال، مدناً كثيرة. في الشرق والغرب، الشمال والجنوب، قادتنا خطانا الى مدن من الاسمنت والكونكريت وسطوة الرماد، ومررنا بمدنٍ ذات واجهات من زجاج وستيل ولدائن، ولكنَّ الصور التي نحملها في مخيلاتنا، وفي صميم أرواحنا، عن المدن المشتهاة امتنعت عن التماهي بغيرها.

رأينا المدن التي تشقُّ عمائرها الممعنة في العلو كبد السماء، وحملتنا الطائرات والعربات والأقدام الى مدن لم تلمع في سمائها نجمة الصبح. شاهدنا مدنا يعشِّشُ فيها الحزن وتزنرها أحزمة الفقر والمدرعات والذباب. مشينا في شوارع مدن غاصة ببشر يسعون في جنباتها لاهين، وأخرى يتلفَّتون فيها يمنةً ويسرةً خشية المتنصتين على خفقٍ وراء الحجاب الحاجز.

ثمة مدن تمشي في شوارعها وتصفِّر لخيالك كي يتبعك من فرط الضجر، وثمة مدن تهدر في باطنها قطارات وأرتال من مخلوقات ميكانيكية لا تلوي على شيء، وما إن تخرج من الانفاق حتى تتراكض في كلِّ اتجاه كأنها تفرُّ من مقتلة.

لا أحد يتوقف.

لا أحد يرى.

جئنا من قرى ومضارب وبلدات تنوء تحت قوس الخدر، يقلِّبُها الغبارُ ذات الشمال وذات اليمين وتحرثها الشمس بسككٍ من لهيبٍ وترفعها العزلة إلى مقام السكون.

قلنا نغادر هذه الجبَّانات التي تموت فيها الكلمة على اللسان والصيحة في الصدر، والفكرة في شرنقتها الأولى. قلنا لا نريد، بعد الآن، البيت الكبير ولا وشائج القربى ولا قمصان الصداقة المشجَّرة، فخرجنا من تحت جنح الأمهات ونظرات الآباء الصارمة، في صدورنا صهيل خيول وفي أعيننا تبرق وعودٌ بعيدة. حلمنا بمدن كبيرة وأرصفة للعشاق ومقاه للصخب ونساء يصلحن للعناق وللقصائد. هجرنا البيوت التي تفوح برائحة القرفة وحب الهال وشعير المولد النبوي ومضينا الى نداءات غامضة تهبُّ من الأقاصي.

البعيد، أياً يكن، كان وجهتنا.

النأي عن المألوف والأفكار المتداولة حتى السأم كان حافزنا.

نريد أن نولد من جديد.

نريد أسماء غير تلك التي سمانا بها أهلنا.

نريد رئات جديدة وأوكسجيناً طازجاً.

فقفزنا من علو الأماني وظللنا نحلِّقُ على أجنحة الحلم الى مدن غريبة حيث تطوي لسانك الأم وتستخدم لسانا آخر، الى أرصفة عريضة يمكن لك أن تكون فيها حراً تماماً ولا شيء تماماً وطريداً بين المطرودين من رحمة النسق والسياق. سقطنا من حالقٍ فتلقفنا الاسمنت.. وعندما صحونا من غيبوبة الدم وجدنا أنفسنا في علبٍ محكمة الاغلاق.. في مدن تسوس البشر بسياط الاستهلاك وتضرع للقدرة الكلية للبورصة والبنك ورب العمل.

مدن من الصُلب والكيمياء.

لا رائحة لزهورها البلاستيكية.

لا بهجة في أخضرها الممتد على مدى البصر.. الحسير.

مدن المعادلات الجبرية والتوازنات المحسوبة بالقيراط بين دقة القلب ونبض العضلة، دقات ساعات الابراج والساحات العامة ومتاهات الصناعة.

أين هذه المدائن من مدن الخيال؟

أين تلك العمائر العملاقة من بيوت الحلم؟

أين ذلك كله مما أدخلني اليه إيتالو كالفينو؟

‘ ‘ ‘

ذات مساء كنت مكتئباً (وليست تلك حالة استثنائية على كل حال)فمددّتُ يدي الى كتاب في مكتبتي، تتراقص على غلافه مدنٌ بعيدةٌ في غلالةٍ من سرابٍ أزرق. قلت لأرى أيَّ مدنٍ هذه التي تلوح كالوشم في ظاهر اليد.

ـ هات ما عندك يا إيتالو كالفينو!

ـ عندي هذه الحكايات المستحيلة التي قصَّها ماركو بولو تحت ليلٍ لا يغيب قمره على امبراطور التتار قبلاي خان. اليك هذه الحكاية مثلا: ‘من ذلك المكان وبعد ستة أيام وسبع ليال تصل ‘زبيدة’ المدينة البيضاء المكشوفة تماما للقمر، شوارعها تدور حول نفسها كما لو كانت شلة خيوط. يروون هذه الحكاية عن تأسيس المدينة: ناس من أمم شتى حلموا جميعاً حلماً واحداً. رأوا امرأة تركض في الليل عبر مدينة مجهولة، رأوها من ظهرها عارية وبشعر طويل. حلموا أنهم يتعقبونها. حين استفاقوا انطلقوا يفتشون عن تلك المدينة فلم يجدوها وجدوا مدينة أخرى، قرروا تشييد مدينة كتلك التي رأوها في الحلم. عند رسم الشوارع كل منهم اتخذ الطريق الذي سلكه في الحلم. وفي كل مكان افتقدوا فيه أثر العارية الهاربة. انشأوا جداراً وفراغات تختلف عما كانت عليه في الحلم لكي لا تستطيع الهرب مرة أخرى’.

أو اسمع هذا الوصف لمدينة فيليس:’حين تصل فيليس تؤخذ برؤية الجسور على القنوات. كل جسر لا يشبه الجسور الأخرى.. مقوَّسة ومغطاة على أعمدة أو مراكب معلَّقة ذات دربزينات مزخرفة وشبابيك تطلُّ على الشوارع مقضَّبة بأماليد من حجر بأشكال مغربية، ونوافذ أخرى مستدقة الأقواس، مدببة، تعلوها كوى هلالية أو وردٌ من زجاج ملون.

وكم هي أنواع الأرصفة التي تغطي الأرض هناك:

صخر أملس، بلاط، حصى، قرميد أزرق وأبيض.. في كل خطوة تخطوها تدهشك المدينة بمرأى. شجيرة جذلة تطلُّ من وراء جدار مدينة محصَّنة، تماثيل ثلاث ملكات على إفريز، وقبَّة تصحبها ثلاث قبب صغيرة تحيط ببرج.. حينها ستصيح إعجاباً: هنيئاً لمن تظل فيليس أمام عينيه كل يوم.. ومن لا يقاطعه شيء عن رؤية ما فيها’.

يا لهذه المدن الشفَّافة.

يا لمدن الخيال.

ليس لمدن إيتالو كالفينو الساحرة أي وجود، على هذا النحو، إلا إذا أردت أن تتوقف وترى، إلا إذا أردت أن تراها بأعماقك لا بالنظرة العجلى، لا بالنظر الحسير. دع عنك العين، دع النظر العادي.. بل اغمض عينيك تماماً واترك روحك تحلِّق بك بعيداً على متن سحابة.. ستدفعك الرياح المؤاتية، رياح سفر الأعماق، أبعد فأبعد فأبعد. عندها ستمطرك السحابة فوق المدن المشتهاة.. هناك ستجد شبح إيتالو كالفينو، أو من هو مثله، في انتظارك ليقود خطاك إلى حيث لم تكن تتوقع قط: الى الأمكنة الأولى التي غادرتها بحثاً عن أمكنة أخرى أكثر إثارة.. هناك سيتجلى لك البيت الأول على هيئة قصر، وشجرة المنزل على صورة سدرة المنتهى، والدرجات والسلالم التي درجت عليها صغيراً على شكل أماليد ودربزينات من العقيق.. أما غبار الممرات الترابية بين البيوت فسيكون له في عينيك تلامع غبار الذهب.

قد تكتشف أنك خرجت لكي تعود،

وأنك صعدت لكي تنزل،

وأنك كبرت لكي تصغر،

وأنك رأيت كثيراً لتكون المقارنة ممكنة،

وأنك غيرت اسمك بآخر لكي يحتفظ اسمك القديم بايقاع الطفولة ومعجزتها!

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى