سوسن جميل حسنصفحات الناس

هالوين السوري/ سوسن جميل حسن

 

في تأصيل الرعب، تُكتب السيناريوهاتُ هناك، في البعيد، في الغرف السرية، ويُنفًّذ الفيلم بمشاهده الحية على أرضنا. أمّا شعوب تلك الدول المُترفة التي، بحسب تقارير منظمة الغذاء العالمي، يُتلف حوالي ثلث المواد الغذائية المعدّة للاستهلاك فيها، قبل أن تفتح مغلفاتها أو علبها المحفوظة فيها. ومثلما لا يهمّ الشعب الأميركي، مثلاً، أن يعرف عن سياسة حكامه خارج بلادهم، ربما ليس كل الشعب للدقة، بل ما يهمه ماذا يقدم له هذا الحاكم، وكيف انعكست فترة حكمه على حياته، كذلك نحن، الشعب السوري، ما همّنا إذا كان وجه دونالد ترامب على البيتزا؟ كما نشرت مواقع وصفحات للتواصل الاجتماعي، فإذا كنت من محبي البيتزا في الولايات المتحدة فهناك بيتزا ترامب التي تجهز فيها الأقراص الدائرية على شكل وجه المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية.

هل هناك أشد رعباً من رؤية وجه ترامب على البيتزا؟ من ترى سوف يطيق أكلها؟ هذا الإعلان التجاري من الأساليب التسويقية التي يعتمد عليها حقل التسويق والإشهار. وأن يكون المرشّح لرئاسة الدولة الأقوى التي مازالت تتبوأ هذه المكانة، على الرغم من كل المآزق والأزمات التي تمر بها، غيرَ محصّن ضد النقد والسخرية اللاذعة، فهذا شأن يخص المجتمع الأميركي الذي احتفل، ليلة 31 من أكتوبر/ تشرين الأول، كما كل عام، بعيد الهالوين الذي يوافق عيد جميع القديسين، والذي تقول مروياتٌ إنه احتفال مسيحي، متأثر بتقاليد مهرجانات الحصاد أو الخريف لدى شعوب بلاد الغال وإيرلندا وبريطانيا. وكان لديهم كهنة أتقياء، يقيمون عيداً كبيراً للاحتفال بالخريف، يبدأ في منتصف ليلة 31 من أكتوبر، ويمتد إلى الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني.‏ يؤمنون بأن إله الموت العظيم، سامان، يستنهض، في هذه الليلة، الأرواح الشريرة التي ماتت خلال السنة، والتي كان عقابها أن تستأنف الحياة في أجساد حيوانات، حكاية تُترجم بطقس يكرّس لمنظومة قيمية، فمن سيحبّ أن تكون روحه شريرةً لتسكن جسد حيوان؟ لكن الثقافة الليبرالية المعولمة صادرت الفكرة، وألبستها لبوساً دينياً، حتى صار الهالوين من أكبر الأعياد في الولايات المتحدة، وسُخّر ليكون بازاراً لمستثمرين عديدين، ليجنوا أرباحاً يستخدمون جزءًا منها في تطوير أعمالهم، وابتكار سلع جديدة، وتسويق جديد مترافق مع صناعة ثقافةٍ ووعيٍ جمالي خاص لدى المستهلك، كما مناسبات عديدة عامة، مثل عيد الحب. لكن، أن يكون الاحتفال الشعبي الواسع المدعوم حكومياً بجعله عيداً تعطل فيه الدوائر الرسمية مكرّساً لجماليات العنف، فهذا أمر جارحٌ لكرامة الإنسان.

تحتفل الشعوب في بلدان غربية عديدة بهذا العيد، وفي عصر الانفتاح والعولمة بما تُتيحه الثورة الرقمية النشطة، فإن الاحتفال به تزداد رقعته، حتى صار ينتشر في روسيا، بعد انهيار الاتحاد

“هل هناك أشد رعباً من رؤية وجه ترامب على البيتزا؟” السوفييتي خصوصاً، لكن الحكومة الروسية حريصةٌ على الصحة النفسية لأبنائها، يا للمفارقة الفجّة، فقد صرّح مرة الأستاذ في علم النفس، كبير الباحثين العلميين في معهد دراسات الطفولة والأسرة والتربية، التابع لأكاديمية التعليم الروسية، فيكتور سلوبودتشيكوف إن الأطفال ليِّنون عاطفياً، وإذ يحوّلون الشر إلى لعب، إنما يميعون، وغالباً يفقدون معايير التمييز بين الخير والشر. وبعد ذلك، نصطدم “بالإحساس المتحجر” عند المراهقين الذين يغدو إلحاق الأذى والألم للآخرين، بالنسبة إليهم، أمراً “ظريفاً ومسليا”. ليس هالوين حفلة مرح صباحية للأطفال، بل مشروع بيزنس كبير. أما وزير الثقافة الروسي، فلاديمير مدينيسكي، فبرّر طلبه منع الاحتفال بين طلبة المدارس بالظروف السياسية الخارجية، فضلاً عما يتصف به هذا العيد من طابع غريب عن الروس.

أبدعت “هوليوود” في أميركا في أفلام الهالوين، أفلام الرعب التي سلبت خيال المراهقين والبالغين، هوليوود بتقنياتها وخبرائها وتقنييها وتفوقها غزت العالم بأفلام الرعب التي أجهضت نساءٌ كثيراتٌ جرّاء رؤيتها، أميركا التي يصنع سياساتِها رأسُ المال والشركات الاحتكارية. أميركا القائمة على منظومات قيمية تخصها، وعلى قوانين اقتصادية مفتوحة، لتتأقلم مع نزعات الأموال وأهوائها، يمكنها أن تمنح شعبها يوماً يمارس فيه ترف العنف المبهج المفرح، وإلّا فإن “أم الحلوى” ستنتقم، وترسل الأرواح الشريرة تدغدغ خوف الأشخاص ليلة واحدة، بينما لا يعرفون أن الأرواح الشريرة كلها أرسلت إلى بلادنا، وأن هناك شعباً لديه في السنة الواحدة 365 يوماً من الهالوين، ويوم آخر إذا جاءت السنة كبيسة. وأن الهالوين ما زال فعّالاً منذ أكثر من خمسة أعوام، لا يعرفون أن السرقات خفيفة الظل المباحة في الهالوين، خاصتهم من سرقة بعض القطع من البيوت تجري عندنا باحترافٍ أكثر، وأن بيوتنا تسرق ومدننا وتراثنا وآثارنا وخيراتنا وأحلامنا وضحكات أطفالنا، ربما لم يسمعوا بهالوين حلب الذي لم يشهد تاريخ العنف البشري مثله، لا يعنيهم أن يعرفوا أن ترامب على قرص البيتزا لن يثير شهيتنا، ولا سخريتنا، ولا قرفنا حتى، فكل وجوه الرؤساء الأميركيين واحدة، واحدهم صنع “طالبان”، وآخر صنع أسامة بن لادن، والحالي الذي يحزم حقائبه ليغادر بيت “السلام” الأبيض صنع داعش.

لسنا من يصنع العنف، ويبدع في فنونه، بل ويتبارى في تكريس جمالياته، مهما قيل ويقال عن

“أرواح ضحايانا التي تسبح في سديم الأبدية طيبةٌ، وليست شريرة، لكن شرّ العالم كلّه يصطادها” ماضينا وتاريخنا المترع بألوان العنف، ومهما ادّعوا أن الإسلام يوفر قاعدة بيانات كاملةٍ ومتسقة، تبنى على شرعية دينية وإيمانية للعنف، فإن تأصيل العنف يبدأ من هناك، من الغرب وأميركا حكام العالم وأصحاب القرار فيه، ومن القوى الأخرى التي لا تهتم تجاه مصالحها بمأساة شعبنا، روسيا الحريصة على الصحة النفسية لأطفالها، هل سمع قادتها أنين روح باغتتها قذيفة؟ أم رأوا رضيعاً يُنتشل جسده المهشّم من تحت ركام غاراتهم؟ تلك الدول المحيطة بنا لا يعنيها أن يتبلّد إحساس مراهقينا، يكفيهم أن تصاغ حياتهم وفق منطق الحرب والسلاح والضغينة.

من منكم بريء من عيد الهالوين خاصتنا؟ تعلّم شعبنا أن يصنع أفراحه الصغيرة لتصبح كبيرة، وهي تنهل من روح الأرض والطبيعة. في الحصاد، يحتفلون، على البيادر وفي السهرات على ضوء القمر، بعد جهد يوم كامل، يتبارون بالزجل ويشنّون حروبهم اللغوية بجماليةٍ عاليةٍ ونباهةٍ متقدة وبديهة سريعة، في موسم العنب يقطفون العناقيد ويغنون لأسرار الكرمة. في موسم الزيتون والخوابي التي تعتقت بالزيت وحكاياته تنتظر، في موسم الرمان، في مواسم الأرض التي لم تعد أرضاً، كنا نصنع من القرع قِربَ الماء، لكن الحرب جففت أنهارنا، وسممت ينابيعنا وسقت زرعنا بالدماء. صارت بلادنا خراباً ودماراً، ساحةً لتلك الأرواح الشريرة التي تحولت ليس إلى حيوانات، بل وحوش تهجم علينا من القريب والبعيد.. أرواح ضحايانا التي تسبح في سديم الأبدية طيبةٌ، وليست شريرة، لكن شرّ العالم كلّه يصطادها.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى