صفحات الناسفاطمة ياسين

“هامش”.. تبادل لغوي حيّ في إسطنبول/ فاطمة ياسين

 

 

في إسطنبول، المدينة التي يرد اسمها في قائمة الـ “ميغا سيتي” ويتجاوز عدد قاطنيها عشرين مليوناً، معظمهم من الأجانب، ابتدع البيت الثقافي “هامش”، بالتعاون مع “سلام بلاتفورم”، مشروع تعلم لغة تفاعلي.

لا يهدف المشروع الوصول إلى الملايين العشرين بالطبع، ولكن يطمح إلى أن يحقق مدى استيعابه الأقصى، بهدف لنشر أكبر عدد من اللغات بأقصر الطرق.

شباب، مراهقون وناضجون، يتجمعون في مكان صغير يلتف حول نفسه وكأنه يعانق مرتاديه. تملؤه الكراسي الخشبية والطاولات المنتشرة بعشوائية منظمة، ووراءهم مكتبة تشغُل الحائط الخلفي وتحوي عدداً كبيراً من الكتب التي تقف بصمت كشاهد عيان على مماحكات عشاق اللغات الأجنبية.

يلتقي الشباب هنا لـ “ممارسة اللغة”، كما يحلو لمنظمي النشاط أن يطلقوا على عملية التعلم هذه. يتحلّق طلاب كل لغة على حدة، وتأخذ اللغة الإنجليزية، غالباً، دور الوسيط الذي يسهّل مهمة الراغبين بتلقّي أي من اللغات الأخرى. يشكّل السوريون قسماً كبيراً من الحضور تبعاً لكثافة وجودهم في إسطنبول وفي تركيا عموماً.

المشرفة على النشاط، شابة دنماركية تتكلم الإنجليزية والعربية وقليلاً من التركية. ينبعث حبها للمهمة على شكل جمل متناثرة ومفردات من اللغات التي تتقنها، ويبدو إصرارها على الإشراف طوعاً على إدارة شؤون المكان، واضحاً.

ربما كانت “ممارسة اللغة” بهذه الطريقة هي فكرة المشرفة التي طورتها ونفذتها على شكل هذه الحلقات الصغيرة التي يتزايد عددها باضطراد، فتضاعفت اللغات التي يرطن بها المرتادون الشباب. شجعت جنسية المشرفة، ربما، على حضور شباب أوروبي إلى الملتقى ممن يرغبون بتعلم التركية والعربية.

يمتلئ المكان بالحلقات وتدور في أرجائه الجمل اللغوية المتنوعة؛ فيشترك الكل في ما يعرفونه من لغات يعلمونها ويتعلمونها ضمن عملية تبادلية منتجة، إلا أن المكان يسوده الهدوء؛ فتسمع وأنت تجلس بعيداً عن الحلقات صوتَ موسيقى خفيضاً ينطلق من لحن كل “لكنة” ولغة تصدر عن كل مجموعة.

الفصل ربيع، ورائحة الفراولة تعبق بالمكان وتصنع له قبة من عبير الثمرة الحمراء، يتوسّط كل طاولة صحن زجاجي نظيف مليء بهذه الفاكهة؛ وكأنه احتفاء ربيعي يتجلى بإبراز أجمل ثماره.

أعطت الطاولات العامرة بالفراولة وبعض قطع بسكويت صغيرة للمكان شكل الصالون العائلي الحميم، خطر لي أن أسأل عن تمويل المشروع فأجابتني المشرفة نايا أن أحدهم تبرّع لهم بالمكان والفواتير، والباقي مبالغ قليلة تتحمل “هامش” و”بلاتفورم” الإنفاق عليها. قالت إن اللقاء أسبوعي ومسائي ليتوفر للشباب القدوم بعد إنهاء عملهم.

كما معاهد اللغة التقليدية، يحاول هذا المركز أن يستقطب أكبر عدد من الشباب، فمادته الأساسية هي “المُريد” الذي سيقوم بمهمة مزدوجة؛ فيتلقى علماً ويقدم علماً موازياً هو لغة يتقنها.

كنت أراقب شاباً سورياً، يعرف بعض الإنجليزية، رأيت في عينيه اعتداداً بانتمائه إلى فئة متحدثي لغة صعبة ومعقدة كالعربية، كان يكرر كلمة “أنا أريد” على مسمع فتاة تركية تعرف قليلاً من العربية وترغب في ممارستها للحصول على موقع وظيفي أعلى في الشركة التي تعمل فيها، وكانت هي تردد الجملة “أنا أريد”. هنا تستطيع أن تكون معلماً، ببعض المعرفة، من دون أن تخجل أن تكون تلميذاً مهما كنت تبلغ من العمر.

سألتُ الشاب، حال إنهائه مهمته، عن أحواله في إسطنبول، بعد أن لفتت نظري الرسومات على يديه ورقبته، لأعرف فيما بعد أنه يعمل في محل خاص بالوشوم، وقصد هذا المكان لأنه لا يملك فائضاً من راتبه لينفقه على تعلم اللغات بالمعاهد التجارية.

قال إنه يسكن في منطقة الفاتح وإن دخله لا يغطي نفقات إيجار البيت والمعيشة إلا بصعوبة. وجد محمد، في هذا المكان جواً لطيفاً وفائدة ومتعة؛ لذلك داوم على الحضور بشكل أسبوعي.

الحاجة إلى التعلم والرغبة في تكوين صداقات جديدة مع آخرين يشاركونك الهوايات والاهتمامات تجعل المكان يمتلئ بأعداد تتزايد أسبوعياً. بعد انتهاء المدة الزمنية المحددة بساعتين؛ تخرج المجموعات إلى شارع الاستقلال في منطقة تقسيم ويبدؤون نمطاً مختلفاً من الأحاديث لكن يظل تبادل اللغة مستمراً ضمن حالة تعلم مستمرة لا قدرة لجرس يقرع على إعلان نهايتها.

(سورية / تركيا)

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى