صفحات الرأي

هذا الانتقال المفاجئ من رجال الإرهاب إلى شباب الثورة

 


دلال البزري

هل نتذكر؟ كم عقدنا من ندوات ومؤتمرات وأصدرنا الكتب والمقالات حول “العرب والألفية الثالثة”؟ وكنا بذلك نعدّ العدّة لموعد مصيري، ننتقد الذين هيمنوا على القرن الفائت، نقدم الحلول الناجزة، ونتوسل نهضة ما، لا نعرف بالضبط كيف نحييها…

وفجأة، بعد أشهر من الألفية الجديدة، وقعت عملية 11 سبتمر الارهابية. وطوال عقد من بعدها، كل سنوات الألفية الجديدة، لم ينشغل العالم بأمر قدر انشغاله بالارهاب العربي الاسلامي. تلك العملية أحيت العملية البؤر والخلايا النائمة والأفراد وسيطرت على المشهد بعملياتها المتنشرة هنا وهناك، الموزعة على الابرياء من مسلمين وغير مسلمين.

فطوال سنوات 2010، كان الارهاب هو الديناميكية الاولى الصادرة عن العالم العربي-الاسلامي. كان الذريعة الرئيسية التي حركت حروب هذه السنوات وغزواتها الكبرى: أفغانستان العراق. كان الذريعة التي أعطت الأولوية لإجراءات أمنية مشدّدة حول العالم، وغوانتانامو، والـ”باتريوت آكت”، وابو غريب، وسجون سرية، وعودة التعذيب، وتجاوزات صارخة لحقوق الانسان… أيضاً، الذريعة التي أحيت فكرة “حرب الحضارات”، والاسلاموفوبيا، والتمييز العنصري، والاحزاب اليمينية المتطرفة، الأوروبية خصوصاً… والارهاب، أخيراً، كان طوال العقد الفزّاعة التي كانت تلوّح بها الأنظمة العربية أيضاً، ، وما تزال، لدرء نفسها عن أي تغيير أو تطوير أو إصلاح أو إنفتاح.

هل نتذكر بما كان يتّسم هذا الارهاب؟

إستخدامه لكل انجازات الثورة التكنولوجية، أولاً، الى حدّ عدم تصديق بعض الدوائر الاميركية ان يكون وراء العملية الارهابية الكبرى تنظيم “القاعدة” المكوَّن من عرب، يفترض انهم جهلة أو متخلّفون عن العصر التكنولوجي. لم تكن هذه الدوائر قادرة على تصوّر ان تطال انجازات الغرب العلمية أطرافا بهذا الانغلاق الحضاري! ولكن ذلك حصل. والأدهى انه بعد العملية على البرجين الاميركيين، استخدمت المجموعات والتنظيمات الارهابية الشبكة الالكترونية بكثافة: مواقعها تدرّب، تحرّض، تعبّىء، تنظّم، تعلّم تركيب القنابل واستخدام السلاح. لازمتها إقامة شرع الله، ومحاربة “الصليبية” و”اليهودية”، المتمثلتين بأميركا واسرائيل. هويتها إسلامية، ووسيلتها القتل العشوائي. وأشهر أداوتها، بعد طائرات بن لادن، السيارات أو البشر المفخّخون. قادتها من الشيوخ والمتمشيخين المعمّمين و”الأمراء”، وقاعدتها شباب يافع، وأحيانا مراهقون.

ولكن ما كاد يحلّ العقد الجديد من الالفية الثالثة حتى حصل، مرة اخرى… فجأة فعلا، انفجار بركان من نوع آخر، كانت مفاجأة من العيار الذي أحلّ الذهول على السياسيين ومراكز الابحاث والديبلوماسيين وأجهزة المخابرات، ناهيك عن أبطالها وفاعليها… المهم ان من مقوّمات هذا البركان الثوري، صعوبة تصديق غفلتنا.

الشباب الذين بادروا الى إطلاقه وإثارته يعتمدون، هم أيضا، على الشبكة وإنجازات التكنولوجيا؛ مثلهم مثل “الجهاديين” الاسلاميين، تفلّتاً من الرقابة الأمنية صاحبة القرار في إباحة الرأي أو إخراسه. نقطة استخدام الشبكة هي الوحيدة المشترك بين أبطال الثورة الراهنة وأبطال الارهاب.

باستثناء ذلك، لا نعرف لهم لا قيادة “كاريزماتية”، ولا “أمراء” ولا شيوخ يقودون شباب الثورة الراهنة، أو يلهمونهم (اللهم هؤلاء الذين هرعوا في اللحظات الاخيرة من الثورة، ليلتحقوا بقطارها المباغت السريع). وهؤلاء الشباب هدفهم ليس “الصليبية” أو “اليهودية”، بل أنظمة الحكم في بلادهم، الفاشلة والمنطفئة، عديمة الشرعية. هويتهم وطنية بالدرجة الاولى. هم مصريون، تونسيون، ليبيون، سوريون. اسلامهم تقليدي، لا متطرف ولا أصولي. ووسائلهم سلمية، لا يعرفون السلاح الا ذلك الذي فرضه عليهم الديكتاتور.

باختصار: في العقد الماضي صدّرنا الارهاب، ولم يكن ذلك موضع اعتزاز لنا، بصفتنا عربا أو مسلمين. وفي العقد الجديد أعطينا مثلا للعالم عما يمكن ان تكونه الثورات السلمية الديمقراطية، غير المسبوقة بوتيرتها وبافتقادها الى أية إيديويلوجية أو عقيدة من نوع تلك التي سادت في العقد الماضي.

هذا التتناقض، نكاد نقول “الجذري” بين الديناميكتين العربيتَين المتزامنتَين، الواحدة منها على امتداد عقد، والاخرى تليها، وتَعِد بالامتداد…. الواحدة فاجأتنا والأخرى أذهلتنا… الواحدة تحت الارض والأخرى فوقها… الواحدة تشعرنا بالخجل من انفسنا، والأخرى تزهو بها النفس اعتزازا… الواحدة لا ترمز لغير اليأس، والاخرى تبعث الأمل في الحيوات الهامدة…. كل هذا التناقض يطرح علينا التساؤلات.

ذهولنا وتعجّبنا من الثورة الجديدة، عدم توقعنا لحدوثها: هل يعود الى كوننا كنا منكبّين على الارهاب، لا نلاحظ غيره؟ او الى ذاك الحيز المبالغ الذي منحه الإعلام للارهاب؟ هل أسهب الإعلام في تغطية الارهاب و”تحليله” وتعقّبه؟

هل هذا هو سبب ذهولنا بما أعقبه من ثورة تخالفه، أم ان الثورة خضعت لقوانين هي الى قوانين الطبيعة أقرب؟ قوانين مثل القدر، لا تتدخّل الإرادات البشرية فيها الا لإعانتها على التحقّق؟ أو قوانين خلدونية، خاضعة لإرادة الزمن الحتمية. الزمن الذي لا يعفي شيئا من التلّف؛ خصوصا اذا كان هذا الشيء عصبية حاكمة فاشلة وحاكمة ومتحللّة. هل يمكن تصور فعل الزمن عليها؟

من السهل الآن إيجاد مليون سبب وسبب لإندلاع هذه الثورة: الفقر، البطالة، الهوّة بين الطبقات، التسلّط وثقافته، الفساد الخ، وهذه أسباب مطمئنة للعقل، تبدّد وطأة العجز عن توقّع المفاجأة. ولكنها لا تلغيها، ولا تضيف شيئا على هيمنة الارهاب على العقد السابق بدل الارهاصات الاولى للثورة؛ اذ كنا نسرد وقتها نفس الأسباب التي جعلت من الارهاب ديناميكيتنا الوحيدة: الفقر، البطالة، الهوة بين الطبقات، التسلّط وثقافته، الفساد الخ (ولكن لاحظ أيضا، غياب “الاسباب القومية” أو الخاصة بالهوية، في الثورة الجديدة، من نوع التعنّت الاسرائيلي و”هيمنة المشروع الأميركي”، على الأقل في شعارات الاولى).

كيف استطاعت الثورة المعلوماتية ان تخدم أهدافا متناقضة؟ إرهابية وديموقراطية في آن؟ كيف انتقلت إنجازات الثورة التكنولوجية من خدمة الارهاب الإسلامي الذي يعتمد القتل العشوائي ويحمل أفكارا ظلامية، الى خدمة شباب مسالم، لا يملك غير التظاهر، يصوب عداءه في وجه نظام استبدادي ويطالب بإرساء قواعد ديموقراطية للحكم؟

الاجابة على هذا التساؤل الثاني قد نجدها في شباب كلي الضفتين: في اي منطقة نشأوا؟ الى أي طبقة اجتماعية انتموا؟ في أية أوساط ثقافية تنقلوا، أية تأثيرات ثقافية تلقوا؟ في أي مدارس تعلموا؟ بأي جامعات التحقوا؟ وسط أية جيرة سكنوا؟ وما هي المهن التي مارسوها؟

واذا وجدنا بعد هذا البحث شيئا ما، يفسر الالتحاق بهذه الضفة او تلك، يبقى السؤال: هل الواقع الفعلي أقوى من الواقع الافتراضي في ضخّه للافكار والتصورات؟ أم انه، عكس ما هو شائع، عالم الافتراض والشبكة وكل انجازات التكنولوجيا لا يكون مصدرا قويا للأفكار والممارسات الديموقراطية الا بالقدر الذي يكون مستخدمها مهيّأ لها؟

الآن: الثورات العربية الراهنة تختلف عن كل نظيراتها بأنها ليست صاحبة فكر منجز مكتمل، ايديولوجيا كان أم عقيدياً؛ اللهم الا فكرة واحدة، محورية، هي إسقاط الأنظمة البائدة والفاشلة. ولكن الفكرة الديموقراطية بحدّ ذاتها، هل من السهولة بمكان تطوير ممارساتها وسلوكياتها؟ الا تحتاج الى تفرعات عديدة ومعقدة، الى اجابات على مشكلات غير مسبوقة، الى اختراعات في التسويات والحلول؟ الامر مفتوح على المجهول، على كل الإجابات.

ومع ذلك، يبقى هناك شيء غير متسلسل، غير منطقي في هذا التعاقب السريع والمفاجىء لعقدين من زمننا متناقضان جذريا، كأن عقدا دفعنا بخشونة مفرطة نحو عقد جديد. فهل يكون التاريخ غير منطقي، أم اننا لم نلتقط منطقه، لم نفهمه؟ أم ان هناك خصوصية للديناميكية العربية، خارجة عن مفاهيمنا ومقولاتنا الحديثة؟ خصوصية قد نلتقط غرابتها في قصص الف ليلة وليلة؟

المستقبل

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى