بدرالدين عرودكيصفحات سورية

هذا الحلم الموؤود/ بدر الدين عرودكي

 

 

خمس سنوات كانت كافية لتظهير المعاني الأعمق والأدق لما حدث إثر اشتعال النار في جسد هذا الشاب التونسي، محمد بو عزيزي، الذي بلغ من اليأس حدّ التمام فصار الموت والحياة في عينيْه سيان، مُطلِقاً بموته دون أن يدري أكبر حراك شعبي عرفه العالم العربي، بل العالم أجمع، في تاريخه الحديث.

خرجت الجماهير في تونس ومصر تطالب بإسقاط نظام الأبد والتوريث. ولحقت بهما جماهير ليبيا وسوريا واليمن. هرب بن علي بعد أن حاول تخفيف آثار الأبد بلا جدوى، وتنحى مبارك ملغياً الأبد والتوريث معاً. أغرت السرعة التي خرج بها هذا وذاك جماهير ليبيا وسوريا واليمن في أن تأمل خروج مستبديها بسرعة مماثلة. لكن هؤلاء استوعبوا الدرس فأطلقوا النار على جماهيرهم، واستحال الأمل رعباً موصوفاً ولا يزال.

ذهل العالم أجمع من انتفاضة عالم عربي كان يبدو وكأنه في سبات أهل الكهف وكان الجميع قد اعتبره الاستثناء. وهرع الساسة من الغرب ومن الشرق إلى ميدان التحرير يستجوبون شباباً لم يكونوا يملكون سوى الأمل، أو الحلم، ببلد يملكون فيه مصيرهم وقدرهم، ولا يُرغمون على أن يدفعوا حريتهم وكرامتهم ثمناً لوجودهم فيه.

قيلَ على ألسنة الجميع وكُتِبَ الكثير مما قيل، على حذر تارة وبيقين تارة أخرى، بما يفيد من ناحية معنى مؤامرة دُبِّرت في الخارج: شباب تمَّ تدريبهم في الولايات المتحدة وفي أوربا بين 2003 و2004 عبر منظمات غير حكومية، تمولها مع ذلك الحكومات، على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في من أجل التجمهر والتوجيه والشعارات؛ أو بما يعبر من ناحية أخرى عن رفض مطلق لنظرية المؤامرة بناء على استحالة التلاعب بحركة جماهيرية أو السيطرة عليها وتوجيهها لاسيما وأنها كانت حركة عفوية بلا قيادات حقيقية ظاهرة أو خفية؛ أو أخيراً بما يستعيد مشروع الفوضى الخلاقة الذي كان عنوان مشروع جورج بوش الإبن في منطقة الشرق الأوسط الذي بدأ بالحرب في العراق واستؤنف عن طريق حركات جماهيرية سلمية من أجل إعادة تنظيم المنطقة الممتدة من أفغانستان حتى المغرب الأقصى. لكن أحداً لم ينتبه إلى إمكان تلفيق المؤامرة واختلاقها ثم تظهيرها بطرق لا يتقنها إلا نظام أمني عريق كما فعل النظام الأسدي فور انطلاق الحراك الثوري.

كتب ذلك كله في مختلف الصحف الأوربية مع الإشارة الواضحة إلى دور الولايات المتحدة الأمريكية الرئيس في تنظيم الدورات التدريبية للمدونين القادمين من تونس ومن مصر، وعلى نحو كثيف اعتباراً من عام 2007. لم يكن من السهل قبوله جملة أمام مشهد الجماهير غير المسبوق وهي تخلع في عشرة أيام بن علي في تونس وفي خمسة عشر يوماً مبارك في مصر، وكلا منهما كان حليفاً مرضياً عنه أمريكياً كل الرضا. لكنَّ مَنْ قبلَ هذا التفسير وبنى خياراته عليه في معالجة الحراك في بلده كانت أنظمة ليبيا وسوريا واليمن. لم تترك الفرصة للنظام الليبي كي يقاوم أو يحقق ما كان يشرع في الإقدام عليه، فكان التدخل العسكري الذي جاء بعد تردد طويل كافياً للحسم في إزاحة النظام. أما في اليمن فقد ناور علي عبد الله صالح مسلحاً بكل ما يملكه من وسائل أتقن استخدامها طوال نيف وخمسة وثلاثين عاماً حكم خلالها رئيساً لليمن؛ بخلاف سوريا التي كانت إيران شديدة الحضور فيها ومن حولها تسعى بمختلف الوسائل العسكرية والسياسية لدعم النظام الأسدي في القضاء على الحراك الثوري الوليد. وإذا كان مجرى الأحداث خلال الأسابيع والأشهر التالية، في تونس ومصر أولاً، بدا وكأنه يكذب ما قيل حين غادرت الجماهير الشوارع لتتابع ثمرات حراكها من خلال تجربة ديمقراطية وليدة تعد بالكثير رغم الخشية من انكفائها بسبب هشاشتها، فإن ما جرى في ليبيا واليمن وسوريا ثانياً كان يزيد من تعقيد الصورة وضبابيتها ويعيد التذكير من جديد بالشكوك التي تخللت أكثر الكتابات تفاؤلاً بما أطلق عليه «الربيع العربي».

أسهمت القوات الفرنسية بمشاركة قوات حلف الناتو في إسقاط القذافي ونظامه، لكن جماعات المقاتلين المختلفة التي تكونت خلال المعركة ضد القذافي وجنوده، هيمنت على المشهد السياسي بتناقضاتها وخلافاتها وانتماءاتها القبلية أو الجغرافية بحيث تعثرت العملية الانتقالية المنتظرة من أجل النظام الجديد الموعود حتى صار من المستحيل الوصول إلى حلٍّ يرضي الأطراف كلها فكان لابد من تدخل خارجي، من خلال ممثل أممي هذه المرة، يحاول أن يصل بها إلى صيغة توافقية تؤدي إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية وإلى برلمان موحد يرسي قواعد النظام الجديد المأمول.

ولم يكن اليمن أحسن حالاً. فالحل السياسي الذي جرى الوصول إليه تحت إشراف مجلس التعاون الخليجي وأدى إلى خروج علي عبد الله صالح من الحكم وحلول نائبه مكانه سرعان ما أدى، بفعل مناورات الرئيس السابق والقوى العسكرية والقبلية التي تدعمه، إلى انقلاب قام به الحوثيون بدعم من إيران سيطروا بموجبه على أركان الدولة ومؤسساتها في أرجاء اليمن كلها، مما حمل الحكومة التوافقية على اللجوء إلى الرياض التي لم تلبث أن شنّتْ ضمن تحالف خليجي وعربي عاصفة الحزم من أجل إعادة الشرعية والحيلولة دون تحقيق إيران لأهدافها من وراء دعم واحد من مكونات الشعب اليمني على حساب المكونات الأخرى.

أما سوريا فهي تقدم الصيغة الأكمل والأكثر جلاء لما جرى ويجري في ليبيا وفي اليمن. فقد اعتمد النظام السياسي العائلي، الذي يضاهي في فحشه واستبداده ودهائه النظم العربية مجتمعة، في خياره الردّ على الحراك الجماهيري الثوري، على قوة إقليمية، إيران، ترى فيه صمّام أمان أهدافها التوسعية بعد أن هيمنت على العراق ومكنت ذراعها في لبنان من الإمساك بمفاتيح الحكم فيه، وعلى قوة دولية، روسيا، التي، وهي تستعيد بفعل ما جرى في سوريا أداة تستخدمها في صراعاتها أو في منافساتها السياسية منها والتجارية مع القوى الغربية، أخذت على عاتقها لتحقيق ذلك ضمان استمرار النظام الأسدي دون أي تغيير جوهري فيه أو في رأسه.

من الممكن أن نرى في ضوء ما سبق، أن ما انطلق في تونس مع نهاية عام 2010 وامتد ليشمل العالم العربي خلال الأشهر الأولى من عام 2011 لم ينته بعد. وأنّ ما بدا في الشهرين الأوليْن من عام 2011 انهياراً سريعاً للاستبداد لم يكن إلا بداية صراع معه لا يزال قائماً وسيمتد. وأن الثورات لم تؤتِ أكُلها بعدُ وأن الطريق أمامها لا يزال طويلاً أمام تحقيق حلم بتغيير سريع تمّ وأدُه على وجه السرعة.

ذلك لا ينفي بالطبع واقعيْن تبرهن عليهما مجريات الأحداث حتى اليوم: الأول أن ثمة مشروعاً وضعت تفاصيله وأهدافه من أجل إعادة النظر بخارطة المنطقة العربية كلها بل وببعض البلدان المحيطة بها، مشروع يعود إلى بداية ثمانينيات القرن الماضي؛ والثاني أن ثمة ثورة حقيقية تطالب بالحرية وبالكرامة وبالعدالة الاجتماعية أطلقها من لم يكن منتظراً منه أن يقوم بها: فتيات وفتيان في ريعان الشباب، لم يملكوا سوى الحلم، وكانوا على استعداد للتضحية من أجل تحقيقه وقد فعلوا. ولا يزالوا يفعلون.

وعلى أنه مجرد حلم بات اليوم موؤوداً، إلا أنه، مع ذلك، كان قد أحيا أملاً خيِّل للكثيرين أنه تلاشى مع سنوات الاستبداد والقمع، وها هو يشعّ حياة ونوراً في مواجهة قوى الموت والظلام.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى