صفحات الرأيمحمد ديبو

هذا الفراغ الخلّاق!


محمد ديبو

استولى الإنقلابيون على السلطة في الدول الجمهورية الطابع في العالم العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وفق وعي سائد آنذاك يقول بفرض الثورة “من فوق”، مختزلا الثورة في سلطة تحكم قبضتها على المجتمع. ولأن السلطة- كل سلطة – تقوم على العنف والسيطرة والإلغاء ما لم تتوفر مؤسسات وقوى ناظمة تردعها، عمل أصحاب الثورات/الانقلابات على إدامة الهيمنة على السلطة عبر تطوير مؤسسات العنف والأمن على حساب مؤسسات الدولة، حيث تم ابتلاع الجيش أو تحييده على الأقل، مقابل إطلاق يد الفساد والأمن لتخضيع الجميع (أحزاب ومؤسسات مجتمع مدني ونقابات..)، حيث بدا وكأن السلطة في العالم العربي أصبحت كلية الهيمنة، وذات عنف مطلق وغير مبرر ضد مجتمعها، بل ووصلت إلى مرحلة ألغت فيها المجتمع كليا من حساباتها، عبر التحول إلى نموذج”دولة ضد مواطنيها” بدلا من أن تكون “دولة لكل مواطنيها”.

مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ستبدأ تلك الجمهوريات بالتحول إلى نوع من الحكم الملكي العضوض تحت ستار الجمهورية، حيث ستبدأ السلطة فعليا بإلغاء كل مؤسسات الدولة(مع الإبقاء عليها شكليا) وكل ماله علاقة بالحكم الجمهوري والشعب من مجال السياسة والاقتصاد والعمل العام، وذلك لصالح “ثنائية حاكمة” قوامها التجاري الذي ينهب، والأمني الذي يسيطر ويُخْضِع، حتى يتمهد الأمر لمرحلة التوريث السياسي الذي سيدق آخر مسمار في نعش الجمهوريات العربية، ومع هذه المرحلة سيبدأ تشكل الفراغ الكامل في الساحات العربية، هذا الفراغ الذي سيجعل السلطات العربية مطمئنة إلى قوة تحصيناتها وشيوع هيمنتها.

هذا الفراغ الذي عملت السلطة العربية على تشكيله وتعميمه كنموذج ووسيلة تساعدها على بسط السيطرة عبر فك الروابط الوطنية بين فئات المجتمع وتحريم كل تجمع مهما تدنى شكله عبر إبقاء الروابط في حدودها الدنيا اللاوطنية كي يسهّل عليها التلاعب بها، سنجد هنا وفق ما يتكشف لنا الآن على ضوء الثورات العربية، وذلك عبر مفارقة عجيبة، أن هذا الفراغ الذي خلقته السلطات لإدامة سيطرتها، هو بوابة انهيارها ومسمار نعوشها، ولكن كيف؟

بالعودة إلى الفراغ وطبيعته، سنرى أن السلطة في العالم العربي عملت في مرحلة أولى على طرد السياسة من المجال العام، عبر احتواء الأحزاب السياسية عن طريق الرشوة السياسية، ومن لم يقبل الاحتواء كان العنف المطلق والسجن وسيلة لاحتوائه، وهذا ما حصل في سورية في بداية السبعينيات، حيث احتوت السلطة الناشئة في سوريا الأحزاب السائدة آنذاك في جبهة وطنية تقدمية، عبر إعطائها حصة هامشية من المناصب مقابل تخليها عن ساحة العمل العام وإضفاء مشروعية شكلية على قبول السلطة بالمجتمع، ومن لم يقبل الاحتواء كان العنف والسجن مستقبله (الإخوان المسلمون ورابطة العمل الشيوعي والتجمع الوطني المعارض، مع الأخذ بعين الاعتبار الفرق بين هذه الأحزاب و الإخوان كونهم رفعوا السلاح).

وقد أدى العنف المطلق هذا، إلى انسحاب المجتمع من السياسة وتوقف تشكل الأحزاب، إضافة إلى هيمنة الدولة على كامل المؤسسات المدنية وإعادة تشكيلها من جديد، وفق لعبة السلطة، وهكذا تمكنت السلطة من خلق الفراغ السياسي في مرحلة أولى، ولكن هذا الفراغ لم يكن شمل بعد الاقتصاد الوطني الذي كان مقسما بين الدولة بقطاعها العام، والقطاع الخاص التقليدي، وفعلا هذا ما كان في سوريا، فالاقتصاد في مرحلة الرئيس حافظ الأسد قام على تعزيز أهمية القطاع العام ودروه المحوري في عملية التنمية، حيث عمل هذا القطاع على تلبية حاجات شرائح اجتماعية دنيا، عبر التزام السلطة بتأمين حاجات المواطن الأساسية كاملة، وفق نموذج الدولة التدخلية، وذلك مقابل السماح لرأس المال الخاص التقليدي بالعمل، ولكن دون السماح له بالتغوّل على حساب المواطن ولقمته.

ولكن مع نمو السلطة وتغوّلها ماليا عبر سرقة المال العام، وتدهور الاقتصاد جراء الخارج المتحول والداخل المنهك سياسيا واجتماعيا، ستجد السلطة نفسها مضطرة إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات الاقتصادية بهدف “التحديث والتطوير “، ولكن هذا التطوير سيستثمر كليا لصالح شراكة تجمع طغمة السلطة المالية وطغمة السوق عبر حماية/شراكة أمنية تسهل هذه السيطرة، وهذا ما سيؤدي إلى هيمنة شبه كاملة على المجال الاقتصادي على حساب”لقمة الناس” والطبقات الوسطى التي ستنهار سريعا، إضافة إلى إثارة نقمة أصحاب المال والسوق التقليديين الذين سيجدون أنفسهم بين ليلة وضحاها خارج المعادلة الاقتصادية بعد أن كانوا أربابها.

هنا سيستكمل الفراغ السياسي بشقه الاقتصادي، الذي سيخنق أنفاس الناس ويضغط على أرواحهم، وإذا كان الفراغ السياسي محمولا( وليس مقبولا) من قبل الناس ولا يدفعهم للتحرك والنزول إلى الشارع لعدم تماسه المباشر مع حياتهم، فإن الفراغ الاقتصادي والتهميش ولقمة الخبز ستدفعهم حتما، ليتضافر بذلك السياسي والاقتصادي في مطلب واحد يرفعه الشارع في وجه سلطاته: الحرية والخبز في آن.

هنا ستجد السلطات العربية نفسها في مواجهة هذا الفراغ الذي خلقته، فهو فراغ غير محدد المعالم يساعد الانتفاضة على التحرك بسهولة وزئبقية بين فراغات السلطة المنهكة بفعل آليات حكمها المهترئة، حيث أن هؤلاء”الفراغيون” الأفراد، المهمشون، الجائعون، المطالبون بالحرية يتحركون لوحدهم، يجمعون أنفسهم و يشكلون قياداتهم بين ليلة وضحاها، ينزلون الشارع بدافع ضميرهم الذي اكتشفت السلطات أنه مازال حيّا رغم قمعها، بفعل دهائهم ونفاقهم الذكي للحاكم على مدى سنوات طويلة، وهنا بالذات يكمن أحد أهم أسباب نجاح هذه الانتفاضات العربية، فالفراغ الذي خلقته السلطة ليكون أداة بيدها، أصبح فجأة سلاحا يرتد على نحرها، لأنه لو كان لهذا الحراك الدائر حاليا مرجعية سياسية ما، لكانت السلطة -ربما- قادرة على مواجهته عبر احتواء تلك القيادات التي ستكذب على جمهورها وتعيده من الشارع، ولكن ما لاحظناه أن هذه”القيادات التقليدية” ليست لها أي صلة بالشارع الذي استقل عنها منذ زمن، وفي التدقيق في تفاصيل بعض الانتفاضات العربية سنجد أن هذه السلطات عمدت إلى محاورة القيادات التقليدية علها تهدأ الشارع كما جرى في مصر مثلا، أو تضبطه بفعل العنف، كما حصل في سورية في بداية الاحتجاجات حيث تم اعتقال قيادات المعارضة التقليدية والناشطين، لتكتشف السلطات أن الحراك والانتفاضة جاءت من خارج ذلك، من الشارع وتحديدا من “الفراغ” الذي أصبح قاتلا لها!

ولكن يبقى السؤال المشروع: هل ستقدر تلك القوى بعد نجاح الثورة على تثمير الفراغ باتجاه إعادة الحياة السياسة وبناء الدولة المجهضة منذ نصف قرن تقريبا.

حينها لاشك، سيكون هذا الفراغ خلّاقا بامتياز!

موقع الآوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى