صفحات الرأي

“هذا ليس كلامي.. إنه كلام الله”

دلال البزري

“هذا ليس كلامي.. إنما كلام الله”؛ إنها اللازمة الأكثر ترديداً هذه الأيام. أحياناً تُستحضر هكذا، من دون مواربة. وأحيانا أخرى تتستّر بغلاف رقيق من الإنشاء. بوسعك أن تحزرها من دون أن تشغل ذهنك وأنت جالس أمام التلفزيون. هي في كل الأحوال لازمة الإسلام السياسي، مهما تنوعت تفرعاته؛ في تطبيق الشريعة، كما في إقامة الخلافة الإسلامية، كما في تزويج القاصرات أو في اختصار النساء إلى قاصرات… وفوق رؤوس عتاة دعاته مظلة  “المرجعية الإسلامية”، أي “كلام الله”.

أمام هذه اللازمة العنيدة واحد من المصيرين:

إما أن يصدقها متلقّوها، فيصادقون عليها. ولا يبقى لهم في هذه الحالة غير “السمع والطاعة” لقائلها. ويكون هؤلاء المتلقون جنوداً في معركة يقودها صاحب اللازمة. جنود بسطاء خلف من أصدر أمراً أو توجيهاً أو قراراً أو قانوناً أو خطة، وكانت حجته: “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”.

يتلخص المصير الثاني في عدم تصديق المتلقي لتلك اللازمة، أو لصاحبها. وهذه الفئة تنقسم بدورها إلى اثنتين:

الفئة الأولى ترفضها، لأن لديها من يقول لها “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”، من أمير أو مرشد أو أمين عام… وجميعهم، مثلهم مثل أولهم، لا ينطقون بغير كلام الله. ضمن هذه الفئة تدخل جميع الفروع الإسلامية الناشطة. وكون كل واحدة منها لها إلهامها الخاص، الفرعي دائماً، في فهم كلام الله، فان أي احتكاك يدور حول اللازمة الواحدة: “قال الله كذا…”، يدعي الأول. “كاذب” يجيب الثاني: “الله قال كيت…!”.  وتحت هكذا رايات، لا يمكن للصراع إلا أن يكون هو الأعنف، لأن متحاربَيه يدافعان عن قدسية كلام الله… ولا بد بالتالي أن يكون الآخر، مرتداً عن دينه… وعقوبته الموت…

الفئة الثانية تنقسم بدورها إلى فئات: الأولى، تلك التي ترى في كلام الله مرجعية. لكنها لا ترى في كلام صاحب اللازمة صدقاً عندما يقول: “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”. هي تعرف دينها جيداً، تمارس طقوسه، وتعتبر نفسها مؤمنة بكلام الله. ولها بالتالي تفسيرها الآخر لكلام الله. إنها الفئة المتدينة التقليدية. وهي تشعر بأن الإسلام السياسي أفسد علاقتها بربّها. والصراع بين أصحاب اللازمة “هذا كلام… الله”، وبين هذه الفئة لا يقلّ عنفاً عن سابقه. درجة عداء مرتفعة، ولا يخفف من غلوائها سوى اعتدال الفئة “غير المصدِّقة”…

وهناك أيضا فئة ثانية لديها مرجعيات عديدة، الدينية واحدة منها. هي على حافة الفئة الأخيرة، التي لا ترى في الدين مرجعاً. لها مراجع أخرى غيرها. والاثنتان، كما سابقاتها، لا تصدقان لحظة واحدة صاحب القول “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”. لا صاحب القول ولا الفعل. في قاموسه، هاتان فئتان “كافرتان كفراً بيّناً”. عندهم إما الدين كله، كما يفهمونه، أو كفر، ارتداد، ضلال. ولا تستحقان إلا ما “أنزله الله في كتابه من عقاب”، كما يقرأون.

إن المرحلة الانتقالية العربية الراهنة يقودها أصحاب اللازمة “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”. ما يعني أن ما يرتسم في الأفق مشروع حرب أهلية لا تنتهي: بين إسلاميين ومسلمين غير إسلاميين أولاً. بين إخوان وجهاديين، إخوان وسلفيين، سلفيين وسلفيين، على أساس أن مئات الأمراء من بينهم يردّدون صبحاً ومساءً: “هذا ليس كلامي…. إنما كلام الله”. ثم بين الأخوان والأخوان، على أساس أنه لا يمكن إلا أن يدبّ الخلاف بين فروعهم، بعدما تكون حروب السلطة الجديدة قد استنزفتها. وكل فرع يقول: “هذا ليس كلامي… إنما كلام الله”.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى