مراجعات كتب

هذا هو تاريخنا فلنتعلّم منه/ محمود الزيباوي

 

 

تحت عنوان “مدخل إلى المذهب العلوي النصيري”، نشر الباحث السوري جعفر الكنج الدندشي في العام 2000 كتاباً عرض فيه تاريخ هذه الجماعة، في وجهيه الديني والمدني، مستهلاً بحثه بمقدمة تختزل صعوبة الولوج في هذا التاريخ الشائك، قائلاً ان الكتب الخاصة بتاريخ العلويين تعبّر عن ثلاثة اتجاهات؛ يغلب منطق الدفاع عن العلويين في الاتجاه الأول، و”التهجّم على النصيرية” في الاتجاه الثاني، أما الثالث فيلتزم “المنهجية العلمية كسبيل للبحث”، ويمثّله بحّاثة لا نجد “بينهم أيّ كاتب باللغة العربية”. أدرك جعفر الكنج الدندشي أن هذا النوع من الدراسات يظل مقيّداً بقيود يصعب فكّها، نظراً إلى الحساسيات التي يثيرها، معلّقاً بحسرة: “كنا ولا نزال لا نجرأ على مواجهة انفسنا بواقعنا”، “نخاف من انفسنا على انفسنا، ونخاف من بعضنا على بعضنا الآخر، نخاف من تطرفنا وتعصبنا الذي يكمن في ذواتنا، نحاول أن تخفي جميع هذه الاحاسيس والانفعالات وهي تعيش معنا كانفاسنا”، و”ندخل الى دراسة مواضيع كهذه ليس من الأبواب، إنما ندخلها كاللصوص، ندخل من كوة أو من نافذة في غلسة الظلام”.

تختصر هذه الكلمات الإشكالية التي تثيرها دراسة هذا “التاريخ المحرّم”، وتعبّر عن المأزق الذي يعيشه كل باحث عربي يرغب في دخول هذا العالم بشكل علميّ مجرّد. يدرس المؤرخون في الغرب التاريخ وهم يؤمنون بأنه “المعلّم الأكبر”، على ما يقول المثل اللاتيني، وهو الطريق الأمثل لتجاوز الصراعات الدموية التي طبعت الذاكرة الجامعية بما تحمله من أهوال ومصائب. على العكس، يتفادى أهل الشرق هذا النوع من الدراسات ويعتمدون سياسة “تدوير الزوايا” بدلاً من مواجهة الحقائق الصعبة. في النتيجة، باتت للتاريخ رواية رسمية وردية يكررها أهل العامة، وأخرى مغايرة تماماً لا يعرفها سوى أهل الاختصاص. تبرز هذه الحال بشكل قاطع في لبنان، كما تبرز في سائر أنحاء الشرق الأوسط بنسيجه الواسع كما أثبتت الحوادث في العقود اللأخيرة. هنا وهناك، يتكرر الخطاب الرسمي وتتكرر الرواية التاريخية الوردية التي تتجاهل الواقع، وتبقى الرواية الحقيقية أسيرة الدراسات الجامعية والحلقات الأكاديمية التي تُعقد بين فترة وأخرى. في نهاية أيار 2009، نظّمت جامعة البلمند وجامعة القديس يوسف بالتعاون مع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى والمعهد الألماني للأبحاث الشرقية مؤتمراً عنوانه “التعايش والنزاعات في بلاد الشام في العهد العثماني، العلاقات بين المسلمين والمسيحيّين من خلال الحوليّات ومؤلّفات الرحّالة”، واليوم أصدر منظّمو المؤتمر أعمال تلك الحلقة في كتاب من أربعمئة وأربع وثلاثين صفحة ضمّ مجمل الدراسات التي عُرضت خلال تلك الندوة التي استمرّت ثلاثة أيام. بدعوة من جامعة القدّيس يوسف، عُقِدت طاولة مستديرة حول هذا الكتاب تحدث فيها الأساتذة الذين أشرفوا على اصداره. لفتت عميدة الكليّة البروفسورة كريستين عسّاف الى أن الكتاب عمل جماعي اشترك في إعداده واحد وثلاثون باحثًا. واشار رئيس جامعة القديس يوسف البروفسور سليم دكّاش اليسوعي الى أن “هذا الكتاب يجمع بين دفّتَيه عُصارة ما قام به باحثون وعلماء وأساتذة، من مشارب مختلفة ومن اتّجاهات متعدّدة، في قراءتهم للمدوّنين المحليّين خصوصًا من بلاد الشام والرحّالة الأجانب، عندما توقّف هؤلاء عند موضوع التعايش في بلاد الشام وما يفرزه هذا التعايش من ساعات وئام وأيّام سلام، كذلك من أوقات عصيبة نسمّيها نزاعات، تركت أثرها القويّ في الأفكار وفي النفوس، خصوصًا تلك الصُوَر الأليمة القاسية، التي دخلت إلى عمق البسيكولوجيا البشريّة الشرقيّة وخصوصًا المسيحيّة منها، ولم تخرج بعد”. وأضاف: “وهكذا فإن التحدي الأبرز الذي يواجه علم التاريخ هو مواجهة الماضي الذي لم يقدر أن يغيب في الماضي، على حد قول كاتبتَي مقدمة الكتاب الدكتورة سعاد سليم والدكتورة كارلا إده. فالذكريات القديمة تستعيدها الذاكرة الحاضرة بعنف لا بعده عنف، بقدر ما كانت تلك الذكريات مكبوتة بقوة السلطات السياسية أو بفعل النسيان الذي لم يمس الجوهر والكيان الباطني الفردي والجماعي. وربما أيضا كانت ضرورة تجاوز الماضي من أجل ضرورات العيش المشترك من دون توبة حقيقية وتطهير معلن للذاكرة، قد أسهمت أيضا في عملية الكبت، تالياً انفجار الكبت على مصراعيه”.

يحوي الكتاب مجموعة أبحاث بالعربية والفرنسية والانكليزية توزعت تحت أربعة أبواب رئيسية. ترسم هذه المقالات صورة شائكة لبلاد الشام تتعارض مع الصورة المبسطة السائدة. يتجلّى هذا الاختلاف بشكل صارخ في الصفحات التي تناولت تاريخ لبنان في الفترة الممتدة من عهد الأمير فخر الدين إلى عهد نشوء الجمهورية مع نهاية الخلافة العثمانية. كما هو معروف، انتهى في العام 1515، حكم المماليك لبلاد الشام، وانتقلت السلطة إلى العثمانيين، وأضحت بلاد الشام ثلاث ولايات، دمشق وحلب وطرابلس. بات الموارنة في جبة بشري والبترون وجبيل والمنيطرة تابعين لولاة طرابلس، فبدأوا بالنزوح إلى كسروان، المتن، الجرد والغرب والشوف، وكانت هذه المناطق تابعة لولاية دمشق. التزم الأمراء المعنيون الشوف، والتزم الإرسلانيون الغرب والجرد والمتن. حوّل الموارنة أنظارهم في اتجاه الشوف، وسعوا إلى الارتباط بالأمراء المعنيين. توطّدت هذه الشراكة في عهد فخر الدين المعني الذي أحاط نفسه بمستشارين ومدبّرين من الموارنة. أمن الموارنة للأمير الدرزي وأصبحوا أنصارا له، بينما انقسم الدروز في هذا الشأن. شجع فخر الدين الموارنة على النزوح إلى المناطق الدرزية، وازدهرت في عهده تجارة الحرير، وسطع نجم المسيحيين كما شهد البطريرك اسطفان الدويهي: “وفي دولة الأمير فخر الدين ارتفع رأس النصارى، عمّروا الكنائس وركبوا الخيل بسروج ولفّوا شاشات وكرور، لبسوا طوامين وزنانير مسقّطة وحملوا القاص والبندق المجوهرة، وقدموا المرسلين من بلاد الفرنج وأخذوا السكنة في جبل لبنان، لكون غالب عسكره كانوا نصارى، وكواخيه وخدّامه موارنة”. من جهة أخرى، نظرت روما بعين الرضى إلى تحالف فخر الدين مع آل مديتشي أمراء توسكانا في العام 1608، غير أن الأحوال تقلبت على الأمير، فاضطر إلى التخلي عن الإمارة، وفرّ إلى إيطاليا في العام 1613، وعاد إلى بلاده بعد خمس سنوات، وبسط سلطته على الجزء الأكبر من بر بلاد الشام، وجعل آل الخازن وكلاء على الجبة وبلاد جبيل، فأضحوا الأسرة الأولى بين الموارنة. أثار تمدّد سلطة فخر الدين مناوئيه، وانتهى هذا العهد باقتياد الأمير إلى الآستانة حيث أُعدم في العام 1635.

 

فخر الدين سليل الفرنجة

يتوقف إلياس القطار أمام شهادة مبعوث كاثوليكي زار لبنان في عهد فخر الدين، هو الراهب الفرنسيسكاني أوجين روجيه. عاش هذا الراهب في “الأراضي المقدسة” بين 1629 و1634، “وهو شاهد عيان لما جرى في هذه البلاد، بخاصّة للسنوات الأربع الأخيرة من حياة الأمير فخر الدين المعني الثاني، إذ كان طبيبه الخاصّ، وهذا ما سمح له بالتعرّف عن كثب، إلى تاريخه وإلى الدروز. كما تعرّف خلال إقامته إلى الجماعات الموجودة في الأرض المقدّسة، فخصّها بمعلومات قيّمة، ومنها الموارنة الذين عاش بين ظهرانيهم قرابة السنة”. تناول أوجين روجيه في كتابه تاريخ الدروز، وتحدث عن أصلهم وعاداتهم ومعتقدهم، ورسم صورة حية للأمير فخر الدين. حاول الكاتب تحديد تاريخ الأمير فخر الدين وأصله وبدء حكمه، وتحدث عن فتوحاته وعن كيفيّة إدخاله الرهبان الفرنسيسكان إلى الناصرة، كما تحدث عن الاستراتيجيا التي اعتمدها للتخلّص من أعدائه، وروى تفاصيل المؤامرة التي وقع ضحيتها. في هذه الشهادة، يقول أوجين روجيه إن الدروز يسكنون منطقة تحمل اسمهم، ولديهم ستة آلاف محارب، “وهم يكرهون الأتراك والمسلمين والعرب، ويذكرون أنّهم مسيحيّون، مع أنّهم غير معمّدين، ولا أثر للمسيحيّة فيهم”. ويرى إلياس القطار أن هذا المعلومة، “مع ما فيها من تقيّة، تبرز وجهًا من وجوه تقرّب الدروز من المسيحيّين زمن فخر الدين”.

“يقصّ أوجين روجيه قصّة فخر الدين الذي عرفه مباشرة، ويذكر أنّ الأمير أطلعه على كتاب ألّفه عن نسبه، يخبر فيه أنّ المعنيّين ينتسبون إلى “غودوفروي دو بويون”، وهم مسيحيّون في الأساس لجأوا إلى البادية العربيّة، بعد طرد الفرنج من الشرق، وعاشوا فيها حياة البداوة، ثمّ استقروا قرب نهر الأردن، في المنطقة التي تعرف باسم بلاد الدروز، وتوقّفوا عن ممارسة الغزو، وانتقلوا إلى حرفة الزراعة. وبما أنّهم مسيحيّون في أعماقهم، كانوا يسعون لاسترجاع الأرض المقدّسة، وهذا ما يبرّر سيطرتهم على الجليل وعلى فينيقيا. فباشر فخر الدين الاستيلاء على مدن الساحل التي بنى فيها القصور ورمّم الأسوار، فأمّت المدينة سفن الفرنج، فبنى الخان لهم في صيدا لحماية بضائعهم. فكثر الناس، من كلّ الأجناس، فيها، يمارسون دينهم بحرّيّة”. يعلّق الباحث من جديد، ويقول: “لا أثر عند الدويهيّ أو عند غيره للكتاب المنسوب إلى فخر الدين، وعن مسيحيّة أجداده ومخطّطه لاستعادة الأرض المقدّسة”. رأس فخر الدين القضاء في البلاد التي سيطر عليها، “وأعطى الموارنة الحرّية في ممارسة قضائهم”، وجنّد خمسة عشر ألف محارب، “لكي يتمكّن من السيطرة على الأرض المقدّسة. وبما أنّه كان لا يثق بالمسلمين في جيشه، مدّ يده لدوق توسكانا”. “كال أعداء الأمير التهم ضدّه، متّهمينه بالعصيان على السلطان، ومكفّرينه بأنّه يحتقر الإسلام، ويدمّر الجوامع، ولا يمارس الفروض والشعائر الإسلاميّة، وبأنّه يتعامل مع أعداء السلطان من توسكانيّين ومالطيّين، ولديه قنصل توسكانيّ، وبأنّه يعامل المسيحيّين بشكل جيّد، ويسمح لهم ببناء الكنائس، مخالفًا الشرع الإسلاميّ. ويسيطر على القلاع، وعلى الواردات العائدة للسلطان، وبأنّه يخطّط للسيطرة على القدس، وما إلى هنالك. قبل السلطان التهم، وأمر بإنهاء وجود الأمير، فطلب فخر الدين من ابنه عليّ الحيلولة دون مشاركة الأمراء في فلسطين وباشا غزة في هجوم كوجك أحمد، فنجح في المعركة، بمساندة اثني عشر ألف محارب أرسلهم له والده، ومشاركة ألف مارونيّ وألفي درزيّ. وعندما وصلت قوّات البحريّة العثمانيّة، رحل فخر الدين إلى بيروت، وأرسل قوّاته بقيادة أبي صافي المارونيّ إلى جبل لبنان، ولم يبق معه سوى ثلاثة آلاف رجل بقيادة أبي نادر الخازن. وبعدما وصلته أنباء مقتل ابنه عليّ، فرّ مع رجاله من الدروز والموارنة في اتّجاه الجبال. وعندما عرفت قوّات دمشق بما جرى، وبفرار الأمير، هاجمت جبل لبنان، فاستسلم الموارنة، وسقطت القلاع في جبل لبنان: غزير والبترون، وتلك الموجودة فوق طرابلس، وكذلك قلعة صفد وبعلبك”.

بحسب رواية الراهب الفرنسيسكاني، استسلم فخر الدين، “فأُحضر إلى حضرة السلطان الذي كال له التهم المذكورة سابقًا، فحاول الأمير الدفاع عن نفسه من دون نتيجة، فتحدّى السلطان ودعاه للمبارزة، فأمر بالتخلّص منه بسرعة، فطلب الأمير أن يؤذن له بالصلاة، ففوجئ السلطان أنّه يصلي كمسيحيّ، فأمر بقتله مباشرة خنقًا، ثمّ قطع رأسه، وعندما عرّي من ثيابه وجد حاملاً صليبًا من ذهب”. يعلّق إلياس القطار، ويذكر أن “الكلام عند أوجين روجيه على الأصل المسيحيّ الأوروبيّ للمعنيّين، وعن استشهاد الأمير وهو يحمل الصليب في رقبته، مسألة لا يلمّح إليها إطلاقًا البطريرك الدويهيّ، وهي لم ترد سوى عند روجيه، وفي تقرير للآباء الكبّوشيّين”. ثم يضيف: “وأعتقد أنّ الأمير، من ضمن التقيّة المعتمدة عند الدروز، كان يلمّع صورته تجاه الغرب بمرويّات عن أصله المسيحيّ. ومسألة مشروعه السياسيّ وإقامة الجمهوريّة أمر يثير أسئلة عدّة، وكذلك الميتة المسيحيّة”.

 

الحكم المصري

عمل فخر الدين لتحقيق مشروعه بجناحَين، درزي وماروني، غير أن هذا المشروع تعثّر كما أثبتت الحوادث التي تبعت هذه الوقائع. استعاد ولاة طرابلس المناطق الشمالية من جبل لبنان، واستمر الموارنة في النزوح من هذه المناطق إلى كسروان والمناطق الدرزية. تزامن هذا التحول مع انقراض السلالة المعنية في البلاد في العام 1697، وانتقال السلطة إلى الأمير بشير الشهابي. اعتنق فريق من الشهابيين المسيحية، وتسلموا الحكم في العام 1770، فـباتت الإمارة الشهابية إمارة مارونية. نعم الموارنة بامتيازات كبيرة في تلك الحقبة من تاريخهم، فتمادوا بالاعتزاز، مما أقلق خصومهم الدروز. في تلك الفترة، تضعضعت السلطة العثمانية، واستغلت دولة محمد علي باشا المصرية الوضع، فدخلت بلاد الشام في العام 1834 بالتعاون مع الأمير بشير، غير أنها اضطرت إلى الخروج منها بعد بضع سنوات، وتبعت هذا الخروج اصطدامات دامية بين الدروز والموارنة.

بسط حاكم مصر محمد علي باشا سلطته على بلاد الشام في زمن انحلال الخلافة العثمانية، مستغلاً انشغال بريطانيا بمشكلاتها الداخلية وانصراف فرنسا إلى حل وضعها المتردي في الجزائر. صمّم حاكم مصر على بناء امبراطورية عربية على حساب السلطنة العثمانية، فمدّ نفوذه إلى الجزيرة العربية والسودان وسيطرته على شاطئ البحر الأحمر، وكانت حملة الشام استكمالاً لهذا المخطط، لكنها منيت بالفشل بعد عشر سنين. عمد هذا الحاكم إلى انشاء إدارة جديدة، وأدخل إصلاحات جذرية على الجهازين القضائي والعسكري. انفتحت السلطة الجديدة على مختلف جماعات بلاد الشام، وانتهجت سياسة مغايرة للسياسة التقليدية في هذه المناطق. أُلغيت الفروق بين المسلمين وغيرهم، وعومل المسيحيون معاملة المسلمين، ومثّلت هذه السياسة تحولاً اجتماعياً عميقاً. رفعت السلطة الجديدة القيود عن الذميين من المسيحيين واليهود، كما رفعتها عن الوزراء الأجانب، وألغت المرتبات التي كانت مفروضة على المعابد والأديرة لجميع طوائف النصارى الكائنة بالقدس. أراد محمد علي من خلال هذه السياسة الانفتاح على فئات الشعب كافة في إدارة شؤون البلاد، كما سعى إلى كسب ود الدول الأوروبية التي رفعت شعار “حماية مسيحيي الشرق” للدخول إلى هذه البلاد.

رغبت السلطة المصرية في إشراك أبناء بلاد الشام في الحكم حتى لا يكون حكمها استبدادياً، لكن الأمور سارت بعكس ما تشتهيه. نشب العداء بين محمد علي وعبد الله باشا والي عكا، وكان جذر هذا العداء اعتراف الحاكم المصري بالأمير بشير الشهابي الذي انحاز إليه وسانده في مخططه التوسعي. انقسمت دمشق فئتين: فئة ترحب بالحكم الجديد، وفئة تقاوم تقدمه بشدة. اشتدت هذه المقاومة مع تدهور أحوال البلاد، وعمّت مناطق أخرى من بلاد الشام. دخلت القوات البريطانية في مواجهة مباشرة مع المصريين، وقضت على حكمهم بالقوة. سلّم الأمير بشير نفسه إلى البريطانيين، فأُبعد إلى مالطا مع عائلته وحاشيته، وأقام فيها فترة قبل انتقاله إلى اسطنبول.

شكلت مرحلة الحكم المصري تحولاً كبيرا في تطور العلاقات بين المسلمين والمسيحيين في بلاد الشام، وقد بدأ هذا التطور في المرحلة التي سبقت هذا الحكم، كما يظهر في بحث عبد الغني عماد حول “تنامي دور الكتّاب غير المسلمين وتأثيره في المجتمع المحلّي أواخر القرن الثامن عشر”. شارك المسيحيون في احياء الثقافة العربية بشكل فعال، وظهرت بينهم عائلات احترفت الكتابة، “مثل عائلة اليازجيّ، التي خدمت لدى حكام دمشق وأمراء الجبل في لبنان، وعائلة الصبّاغ التي عملت في خدمة الظاهر عمر وأحمد باشا الجزّار، وكذلك أولاد مشاقّة الذين وزّعوا خدماتهم لدى الجزّار، وبشير الثاني في جبل لبنان، ومحمّد علي في القاهرة”. “خطا الكتّاب وكبار الموظفين، خطوات متقدّمة على طريق التحرّر من الارتهان للمشايخ والولاة، بخاصّة عندما قوّى بعضهم نفوذه وتحالف مع العسكر، فما عاد الكاتب مجرّد محاسب، بل أصبح حليفًا لا غنى عنه وعن خدماته، فمعرفته بالسكّان والأرض وخبرته في شؤون الإدارة والحكم، جعلت منه خبيرًا ضروريًّا وشريكًا في اتّخاذ القرارات ورسم السياسة”.

في زمن الحملة المصرية، شغل نعمة الله نوفل منصب كاتب الخزينة بطرابلس، وكان له النفوذ الواسع في هذه الولاية. في كتابه المخطوط، يتحدث ابن هذا الكاتب عن تعاظم نفوذ النصارى في طرابلس حيث “خلعوا عنهم شعار الذمّيّة وشرعوا يطلبون المساواة في الحقوق تمثّلاً بمصر، فصاروا يلبسون الملابس الملوّنة، ويقابلون المعتدين عليهم بالمثل، ويتظاهرون بشرب المسكرات، ولا يعملون لأحد من الوجوه عملاً إلاّ إذا استوفوا أجورهم”. غضب المسلمون، وقالوا إن نعمة الله نوفل هو محرّك هذا التوجّه، “وإنّه هو الذي يغري النصارى ويشجّعهم على ذلك، ولولاه لم يكونوا يجسرون على شيء من ذلك”. اتخذ الحكم المصري قرارات غير شعبية “ألّبت عليه الكثير من الناس، ومنها سياسة التجنيد، وفرض ضريبة “حال الإعانة”، وأخيرًا إباحة شرب الخمور وبيعها وتحصيل ضرائب عنها”. “بقيت الأمور ضمن إطار الشكوى والتململ بين المسلمين، إلى أن جاءت أخبار إلى طرابلس تفيد بمقتل إبرهيم باشا في العام 1834، حينها خرج أبناء المدينة إلى الشوارع مظهرين كلّ أنواع الفرح والشماتة. إلاّ أنّه تبيّن في ما بعد أنّ الخبر غير صحيح. ولمّا عاد إبرهيم باشا إلى طرابلس، اقتصّ منهم ومن محرّضيهم، فأعدم العشرات من مسلمي طرابلس، وبينهم علماء ووجوه معروفة”. “وسرى بين السكّان أنّ من رفع التقارير ووشى بالضحايا وقدّم الأسماء لإبرهيم باشا هو نعمة الله نوفل”. نجح المحرّضون، واسترضى إبرهيم باشا أهل المدينة من المسلمين بإدانة نعمة الله والحكم عليه بالموت، “وأظهر نفسه أنّه ضحيّة تضليل من جهة، وأنّ نعمة الله كان يستغلّ السلطة والنفوذ باسمه ليتسلّط على الناس، وكانت هذه مقدّمة لمصالحة لم تطل كثيرًا”.

تطورت العلاقات المسيحية الاسلامية وتبدلت بحسب تطور الحوادث كما تظهر الوقائع. في قراءة لمخطوط كتبه الطرابلسي عبد الله غريّب، نقع على شهادة أخرى حللها فاروق حبلص واستنبط دلالاتها الاجتماعية. “عاصر عبد الله غريّب ثلاث مراحل سياسيّة: الحكم العثمانيّ والانتداب والاستقلال، وشاهد المفترقات الأساسيّة التي مرّت بها بلاده في التاريخ المعاصر. دخل في خدمة العهدين الأوّلين، وكان فاعلاً فيهما على صعيد الإدارة المحلّيّة، وكان متقاعدًا متفرّجًا في العهد الثالث. ويبدو من الوظائف الرفيعة والمراكز الحسّاسة التي أسندت إليه في بدء حياته، أنّه كان مواليًا للاتّحاديّين أوّلاً، ثمّ نقل موالاته للفرنسيّين عند احتلالهم بلاد الشام، بدليل أنّ سلطات الانتداب عيّنته محافظًا على بعلبك عند اندلاع الثورة السوريّة الكبرى”. حرص الكاتب على اظهار وجوه التعايش والتقارب بين المسلمين والمسيحيين، كما انه أشار إلى الصعاب العديدة التي واجهت هذه الشراكة. في قراءته لهذه الرواية، يرى فاروق حبلص أن الكاتب أراد أن يقول “أن العيش المشترك أصبح جيّدًا في ظلّ حكم محمّد علي باشا في مصر، وأنّ النصارى باتوا محترمين، وما عادوا بحاجة إلى مداراة المسلمين والسعي لعدم إغضابهم”، غير أن الواقع يبدو أكثر تعقيدا. انحاز إبرهيم باشا المصريّ للنصارى بطوائفهم كافّة، ولا شكّ في أنه “كان ينوي من وراء ذلك بناء مجتمع جديد على أسس المساواة والعدالة بين الطوائف الدينيّة كافّة، لكنّ فظاظته وتصرّفاته الفجّة تجاه المسلمين، واستخدامه النصارى في إخماد انتفاضات الدروز والمسلمين، أفسدت العلاقة بين الطوائف، وقوّضت أسس العيش المشترك بينها. فما إن انتهى الحكم المصريّ، حتّى بدأت الفتن الطائفية تتنقّل من منطقة إلى أخرى، وكان انتشارها في هذه المرّة بدعم من الدولة العثمانيّة والدول الأوروبيّة وتشجيعها ودسائس قناصلها في بيروت ودمشق”.

 

الفتنة الكبرى

تحتل حوادث 1860 حيزا كبيرا من أعمال الباحثين الذين شاركوا في هذا الكتاب الجماعي، وأبرز المداخلات في هذا الصدد مراجعة قاسم صمد لكتاب تشارلز تشرشل “الدروز والموارنة”. بعد سقوط الحكم المصري، وُضع جبل لبنان تحت الحكم العثماني المباشر، ثم جرى تقسيم جبل لبنان قائمقاميتين، واحدة مسيحية، وأخرى درزية. تأزمت العلاقة بين الموارنة وخصومهم بعد إقرار هذا الترتيب، مما أدى إلى حرب 1860. باغت الدروز المسيحيين المقيمين في مناطقهم، وانقضّوا عليهم بالتعاون مع الحاميات العثمانية. امتدت هذه الفتنة إلى الداخل السوري، وسقط ضحيتها العديد من المسيحيين. شهد الكولونيل تشارلز تشرشل هذه الوقائع يوم جاء إلى لبنان بمهمّة عسكريّة وسياسيّة بهدف معاكسة النفوذ الفرنسيّ، وروى تفاصيلها بإسهاب بعد سنوات. في نقده لهذا الكتاب، يرى قاسم صمد ان تشرشل يركز، “بل يحصر، تلك الأسباب في غدر الدروز ونزوعهم للانتقام، وطموح كهنة الموارنة وأعيانهم وجشعهم، وكره المسلمين السليقيّ للمسيحيّين، وفوق كلّ هذا وذاك وفي كلّ صفحة من صفحات الكتاب، تآمر الأتراك وكيدهم. أمّا ذكر مسؤوليّة دول أوروبا، في كلّ ما حصل، فهو يكاد أن يغيب عن صفحات كتاب تشرشل، من أوّلها وحتّى آخر سطورها، حيث يحاول إظهار مسيحيّته الرسوليّة النقيّة، كأنّ وجوده في الشرق كان لتنفيذ مهمّة راهب أنغليكانيّ يكرز بالدين المسيحيّ، أو كأنّه أحد دعاة حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، أو أحد مبعوثي لجنة حقوق الإنسان، يستدرّ عطف الدول “المسيحيّة” على مسيحيّي الشرق المنكودي الحظّ، فيكتفي بأن يحمّل، إلاّ مرّات قليلة وبعبارات ملتبسة، هذه الدول المسؤوليّة فقط في أنّها وثقت بوعود الأتراك وعهودهم، وفي أنّها اعتمدت “مبدأ عدم التدخّل غير المنطقيّ والأحمق”، وهو بذلك يكون كمن يحكم على نفسه بالغفلة إن أحسنّا الظنّ به، أو بالمراوغة والدهاء والقفز فوق الحقائق، إن أعملنا أو طبّقنا بديهيّات منهج البحث التاريخيّ العلميّ والموضوعيّ”.

عند انتقاله من بحث إلى آخر، يخال القارئ أن النزاعات التي شهدتها بلاد الشام في العهد العثماني الأخير لا تزال مستمرة اليوم، وأن تجربة التعايش التي ظهرت بين فترة وأخرى لا تزال تتأرجح كما في الأمس. يبدو أن التوصل إلى رواية موحّدة للحوادث ليس بالأمر السهل، وأننا لا نزال نعيش في “العصر العثملي”. يبدو الوضع الطائفي متأزما كما كان في الأمس، ولعله أكثر تأزما اليوم. نحنّ إلى شعار “الدين لله والوطن للجميع” الذي رفعه مجاهدو الثورة السورية في العام 1925، لكننا نعرف أن هذا الشعار صار في ذمة النسيان، وأن نزاعات الأمس تشتد بحدة اليوم.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى