سلامة كيلةصفحات سورية

هذه ليست حرباً ضد عصابات بل حرب انتقام من الشعب

 

سلامة كيلة *

كــانت السلــطة تبرر استخدامها السلاح منذ بداية الثورة بوجود «عصابات إرهابية» أو مجــموعات سلـــفية، لكن تبيّن بعد عام وأشهر أن الأشهر الستة الأولى من الثورة لم تشهد وجـــود مسلحين كما اعترف بشار الأسد، وأيضاً فاروق الشرع. بمعنى أن الخطاب الذي تعـــممه كان كاذباً، وهو الأمر الـــذي يفـــرض التشكيك في كل الخـــطاب الذي استخدمته منذ البداية، وطــبعاً إلى الآن.

إذاً، استخدام السلاح كان قراراً سلطوياً بالأساس، وكان كل الخطاب الإعلامي تغطية على ذلك. وهو ما يعني بأن كل التطورات التالية كانت نتاج هذا الأمر. لكن سنلحظ بأن السلطة طوّرت استخدامها السلاح، من استخدام الأسلحة الخفيفة والاعتماد أكثر على عنـــاصر الأمن والشبيحة إلى استخدام الجيش في شـــكل أساسي بعد أن وجدت هؤلاء عاجزين عن وقــف تــــوسع الثورة. ظهر ذلك واضحاً بعد الـــتظاهرة الكبيرة في حماة، حيث قررت السلطة زج الجيش في الصراع بشكل حاسم، والذي على ضوئه استقال وزير الدفاع علي حبيب (وقيل إنه قتل). بالتالي كانت هذه الخطورة سابقة لتسلح الثورة (نهاية تموز/يوليو 2011). فأصبح تكتيكها يتمثل في اقتحام المدن والقرى بقوة الجيش، وتركها لسيطرة الأمن والشبيحة.

وبعد ان جرى استخدام السلاح من قبل الشعب (بعد أيلول/ستمبر 2011، وخصوصاً بعد تشرين الأول/أكتوبر) كرد على العنف السلطوي، أخذ الصراع يتجه نحو التصعيد العسكري، إلى أن أصبح الجيش (خصوصاً هنا الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري) أداة المواجهة. لكن ظل الأمر يتعلق بالسيطرة على المدن والأرياف من أجل «ضبط الأمن». وظل التركيز على قتل المتظاهرين هو السياسة التي تقوم بها من أجل إنهاء الاحتجاج الشعبي.

الأمور تصاعدت بعد أن توسعت الثورة، وأصبح عديد المناطق خارج سيطرة السلطة. وهنا كان الهجوم على بابا عمرو هو مفصل التحوّل، حيث ظهر أن السلطة لم تعد معنية بالقتل فقط بل أصبحت معنية بالتدمير كذلك. وكان ذلك يفسّر بأنه نتاج سيطرة المسلحين على هذه المناطق، التي كان بالفعل هناك سيطرة عليها من قبل المسلحين. لكن كان يبدو واضحاً بأن السلطة لم تعد تواجه المتظاهرين فقط، بل باتت غير معنية بالتدمير الذي يتحقق، وربما أصبحت تعتبر أن التدمير يمكن أن يكون رادعاً كافياً لوقف توسع الثورة وتصاعدها. وفي كل الأحوال كانت تواجه مناطق سيطر عليها مسلحون وخرجت عن سيطرتها. أي كان ما يجري هو تدمير ناتج من «الحرب»، بغض النظر عن أن كل العنف الذي مورس منذ البداية ليس مبرراً ولا يمكن تبريره أصلاً. ما نشير إليه هنا هو «المنطق العسكري» الذي يقود إلى ضرورة ممارسة أو عدم ضرورتها.

هذا الأمر اختلف بعدئذ، حيث بدأ يظهر أن السلطة انتقلت إلى استخدام الطائرات والصواريخ والقصف المدفعي. وإذا كان ذلك يعبّر عن عجز في السيطرة على الأرض، وتقلّص المقدرة العسكرية في ما يتعلق بالقوات البرية، سواء نتيجة توسع مقدرة الثورة أو نتيجة انتشار الشعور بالانشقاق لدى قطاعات الجيش الأمر الذي فرض «تحييدها» (عبر وضعها في المعسكرات من دون إجازات أو تواصل). إذا كان الوضع قد آل إلى ذلك فإن طريقة استخدام الطائرات والصواريخ والقصف المدفعي لم تعد تشير إلى أن ما يجري هو مواجهة مع «مجموعات مسلحة». فتدمير أحياء كاملة لأن فيها مسلحين يُظهر بأن الأمر أوسع من هزيمة هؤلاء أو قتلهم، حيث يمكن من المنظور العسكري اتباع سياسات عسكرية لا تؤدي إلى كل هذا الدمار. خصوصاً أن السلاح الذي يمتلكه هؤلاء ليس متطوراً أو ثقيلاً، بل هو سلاح خفيف بكل المقاييس (ومع كمية ذخيرة محدودة). بمعنى أن «قوة النيران» المستخدمة أكبر بكثير من قدرات المسلحين على الأرض. وكل منظور عسكري سيشير إلى هذا الأمر بوضوح.

ربما يكون السبب تقليص الخسائر لدى «العدو»، وهذا أمر يقوم به الاحتلال عادة، الذي يتقصد أيضاً التدمير الأكبر والقتل الأكثر. وبالتالي نحن إزاء تقلص مقدرة السلطة من حيث عديد الوحدات العسكرية التي تستخدمها.

لهذا أشرت إلى أن معظم وحدات الجيش باتت «خارج الصراع» نتيجة أنها باتت مجال شك بـ «ولائها» وميل الكثير من عناصرها إلى الانشقاق. وبالتالي يتوضّح أن السلطة باتت ضعيفة، و «تترنح»، وأنها لم تعد قادرة على الحسم العسكري. وهذا ما اشار إليه فاروق الشرع في مقابلته الأخيرة مع جريدة «الأخبار»، ولامسه بشار الأسد في خطابه الأخير.

من هذا المنظور يمكن أن نصل إلى أن ما يجري ليس سياسة تهدف إلى هزيمة «العدو»، لأن الشك في الانتصار هو الذي يهيمن على بنى السلطة، وربما هناك الكثير من أفرادها بات مقتنعاً بأن الأمر تجاوز ذلك، وأنه يتعلق بالخسارة والفشل، وبالتالي انتظار السقوط. أظن أن هذا الأمر هو الذي يقبع في أساس «الإستراتيجية العسكرية» التي تتبعها السلطة، والذي يعني أن الممسكين بالسلطة، والذين يشعرون بأن نهايتهم باتت قريبة، باتوا يمارسون سياسة انتقام وليس سياسة انتصار. وهي السياسة التي تقوم على ممارسة المجازر الوحشية بكل معنى الكلمة، والتدمير الشامل، والقتل الممنهج. وهنا لم يعد الأمر يتعلق بمؤيدين ومعارضين، أو شعب وعصابات مسلحة، بل بات يتعلق بأن الشعب ككل يجب أن يذوق الانتقام ما دام تمرّد على «الإله» الحاكم. هذا «الإله» الذي أصبح فوق سورية وفوق كل الشعب. ولا شك أن الكثير من الشعارات التي تطرح من قبل الشبيحة أو تكتب هنا أو هناك يوضح هذه العقلية التي تتحكم في سلطة مافياوية بالأساس.

الجرائم التي تظهر تشير إلى هذه العقلية، حيث تغيب الإنسانية، ويظهر وكأن الذين يقومون بذلك «مهلوسون»، مثل ما ظهر في ليبيا، وقبلها في لبنان خلال الحرب الأهلية. هناك وحشية تمارس لا تعبّر عن سعي لانتصار بل تشير إلى ميل لانتقام. فلماذا يرفض الروس تحويل ملف السلطة إلى محكمة الجنايات الدولية؟ فهم سيكونون مشاركين بالضرورة. الأمر هنا هو أكبر من سياسي.

* كاتب سوري – فلسطيني

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى