صفحات سورية

هزائمُ ظافرة/ ثائر ديب

 

 

تحدد طبيعة أيّ ثورة بطبيعة الوضع الاقتصادي الاجتماعي القائم وأفق تغييره المتوقَّع من جهة وطبيعة قيادتها من جهة أخرى. وثمّة في الحالة السورية قَدْرٌ كبير من التفارق بين هذين الأمرين. وهو تفارقٌ راح يتنامى منذ البداية على وقع القمع الشديد من جهة والتدخّل الخارجي من جهة أخرى، لكنّ السبب الأساس وراء هذا التفارق يبقى بنية الفئات التي تنطّحت لقيادة الحراك وطبيعة تكوّنها التاريخي اجتماعياً وسياسياً وفكرياً.

يتّسم الواقع القائم في سوريا باقتران مديد بين الاستبداد والفساد، حيث أدار الاستبداد آلة الدولة الاقتصادية الكبيرة (ما يُعرَف بقطاع الدولة) على نحوٍ أدّى إلى تكوين فئات طبقية ثرية من خلال نهب المال العام، بما يخالف العلاقة المألوفة بين الطبقات المسيطرة اقتصادياً وسلطتها السياسية. ففي حين تكون الطبقات الثرية مصدر السلطة والحكم في العادة٬ نجد لدينا ولدى بلدان عديدة في العالم الثالث أنّ السلطة هي مصدر الثروة والطبقات الثرية أو سبباً جوهرياً في حراكها وتطوّرها. ومن المنطقي أن يكون أفق الخروج من هذا الواقع القائم هو أفق التحوّل الديموقراطي بعيداً عن الاستبداد وأفق تحرير الاقتصاد من ربقة الفساد المستبدّ، إمّا باتجاهٍ شعبي مساواتي يعيد بناء الاقتصاد ككل وفي مقدمته قطاع الدولة على نحو تنموي عادل حقّاً أو باتجاه الخصخصة ووصفات البنك الدولي المعروفة، بحسب البرنامج الذي يقود التحوّل والتغيير. ومن الطبيعي، في هذا الضوء، أن يوصف التغيير بأنّه ثورة سياسية تتوخّى تغيير شكل الحكم باتجاه لا بدّ أن يترك أثره البالغ على النظام الاقتصادي الاجتماعي للبلد.

أمّا من حيث طبيعة القيادة، فقد انطلقت في البداية مختلف الفئات الاجتماعية في حركة احتجاج سلمية غالبة استطاعت أن تدفع النظام إلى بداية أزمة سياسية تجلّت في محاولات تكيّف طالت الدستور والبرلمان وبعض القوانين، وكانت كفيلة لو استمرت أن تعمّق هذا المسار وأن تبلور مطالب السوريين وتعبيراتهم السياسية والتنظيمية المناسبة، لكن القمع والتسلّح والحلفاء قطعوا هذا المسار وأعلوا من شأن فئات معينة و «برامج» معينة وتصورات فكرية معينة وممارسات معينة على حساب سواها. وباتت طبيعة الفئات القائدة الرئيسة بعيدة كثيراً أو قليلاً عن التناغم مع الأفق الديموقراطي المشار إليه: حركات إسلامية تتراوح سياسياً من «الإخوان المسلمين» وصولاً إلى «القاعدة» و «داعش» ذات طابع ريفي غالب وذات طابع طائفي أكيد؛ أمراء حرب ومعاهد شرعية تفتي لهم؛ فئات هامشية متنوعة المشارب من الشباب الطلاب والمعتقلين السابقين والمهاجرين (القدماء والجدد) والمسؤولين والعسكر الذين انشقّوا عن النظام بفعل الأحداث، مع سيادة واضحة للتصورين الإسلامي والليبرالي اللذين لا ينطويان على أيّ مشروع يتعدّى التكيّف مع السوق الدولية القائمة ووصفاتها المدمّرة.

هكذا، باتت الثورة السورية تنوس منفصمة بين طبيعة الوضع القائم وأفقه المنطقي من جهة وطبيعة قيادتها العاجزة عن الدّفع صوب ذلك الأفق من جهة أخرى، في نوع من التفارق والتناقض الواضحين. وما تشير إليه تجارب التاريخ هو أنَّ النتيجة، في مثل هذه الحالات، لا بدّ أن تتسم أيضاً بهذا الانفصام الذي تكرر مرّات ومرّات. فكثيراً ما خرجت الشعوب بقيادات أودت بها إلى الفشل. لكن المنتصر لا يستطيع، بدوره، أن يبقى كما كان عليه بعد خروج الشعوب ولو فشلت هذه الأخيرة. وهو مضطر لأن يُحقق، ولو بطريقة مبتَسرة، بعض مطالبها، ما يجعل الفشل مجرد مرحلة في سياق قريب.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى