صفحات الثقافةهيفاء بيطار

هـــلال


هيفاء بيطار

هذا اسمها، الذي أثار دهشتي وجعلني أفكر بقناعة تامة بأنها كانت بدراً، لكن آلام روحها المروعة جعلت البدر يتآكل ويتحول إلى هلال…

جمعتني بها صدفة غريبة، كنتُ أسير في الشارع حزينة كالعادة، متأملة الوجوه الحزينة حولي، في وطن منكوب اسمه سوريا، اعترضت طريقي امرأة قدرت أنها في عقدها السادس، غاطسة في السواد، تكشف عن وجه شوهه الذل والألم، وتحمل في يدها بطاقة هوية وتشحذ وهي تقول: أكرموني من مال الله يا أولاد الحلال أنا من حلب…

كم أحس بالخزي والألم حين ألتقي بشحاذين كبار في السن على أعتاب الشيخوخة، أفكر أنهم حقاً في أرذل العمر، لأنهم في أرذل الظروف… مددتُ يدي إلى حقيبتي لأعطي المتسولة مالاً، وأنا أفكر بأن أسلوب التسول يتطور مع الزمن والظروف، وأن إظهار الهوية صار – ربما – ضرورياً للتسول…

ما ان هممت بإعطاء المتسولة الكهلة النقود حتى علا صوت غاضب وملتاع من الألم، لامرأة شابة تقول لي بلهجة حلبية صريحة: أبوس عينك لا تعطيها مالاً، أبوس روحك لا تعطيها مالاً…

كان الصوت قد شرخ روحي قبل أن أرى الوجه، صوتٌ قوي زلزل كياني كأنه قادم من إنسانة تحت الأنقاض في بيت متهدم لشارع متهدم في حلب، وحين التفتُ لأستطلع من صاحبة الصوت، طالعني وجه صبوح لشابة جميلة لكن ملامحها تعكس إنهاكاً فاضحاً، ذلك الإنهاك الذي نلاحظه على وجوه من تعذبوا كثيراً وقاوموا العذاب طويلاً، كانت ملامحها تشي بفقدان الهمة، والسيطرة على أعصابها، عيناها السوداوان ترشحان بالدمع، وشفتاها تختلجان وتبرطمان بكلمات متداخلة غير مترابطة، لكنني فهمت مدى إصرارها ألا أعطي المتسولة مالاً لأنه عيب أن يتسول أحد باسم حلب، حلب عزيزة وأبية وذات كرامة…

انفجرت بالمتسولة غاضبة أنت كاذبة، أنت لستِ من حلب، لستِ من حلب…

ولم تتمكن المتسولة من الدفاع عن نفسها لأنها خافت من تلك الشابة المتأججة من الألم، عرفتْ أنها لن تربح الجولة إذا دخلت معها في سجال، لتثبت لها أنها من حلب…

مددتُ يدي أطبطب على كتف الشابة وأزيح خصلة من شعرها الأسود الناعم طيرها الهواء على وجهها فالتصقت بدموعها، فوجئت بأنها ارتمت بين ذراعي وأخذت تبكي بحرقة على كتفي…

كنتُ في حضرة كيان حُرٌ، أشبه بدوار مشتعل بالكرامة والثورة، كان جسدها يرتعش بثورة الكرامة التي تصر الحياة على أن تعفرها في وحل القسوة والدمار والقتل.

لم أستطع أن أمضي في طريقي، بطريقة ما كانت تلك الشابة ابنتي، أو مرآة روحي، قد لا يكون ألمي صاخباً وملتاعاً مثل ألمها، لكنني صرتُ أعيش بحالة من نفاد الصبر مع ألمي لدرجة صار يخطر ببالي أن أتمكن من ركل يومي لحظة استيقاظي ركلة قوية تقذف به فوراً إلى رحمة الليل، حيث أنام بمساعدة المنوم لأريح نفسي من وجع الصحو…

دعوتها لنشرب قهوة في مقهى رصيف، وافقت بحماسة، تأبطت ذراعي ومشينا ابنتين لوطن ينزف دم أبنائه، ابنتين لوطن، صار السوري يقتل السوري لأن الشيطان أحب أن يستوطن سوريا…

لم أسألها عن اسمها ولم تسألني عن اسمي، جلسنا متقابلتين في مقهى الرصيف، كانت تحاول أن تسيطر على هيجان انفعالها، وحاولت أن أهدئ من روعها، بأن أكرر لها تلك العبارة التافهة التي لا أطيقها، والتي يقولها لي أصدقائي حين أكون في حالة من الغليان والألم، مثل حالة الشابة الحلبية: بسيطة طولي بالك…

ضحكت بمرارة وقالت: ليتها كانت بسيطة! وليت بالي يطول!

ثم صمتت لحظة ودورت خاتم الزواج في إصبعها وقالت هل تمانعين أن ينضم زوجي إلينا.

قلتُ: أبداً، بل يسعدني ذلك…

لوحت لشاب كان يقف غير بعيد عنا، فاقترب منا، سلـّم علي بتهذيب ممزوج بألم حاول إخفاءه، وجلس بجانب زوجته…

لم نكن بحاجة لمقدمة لنتعارف، كنا – نحن الثلاثة نعرف بعضنا بعضا جيداً – فكل واحد منا مرآة للآخر، يجمعنا الدم السوري النازف بغزارة، يجمعنا الحزن القاتل للدمار الذي لم يترك مدينة أو قرية في سوريا إلا وأمعن في تدميرها، يجمعنا الخوف من القادم الأعظم، يجمعنا إحساسنا أن الحياة رخيصة جداً في سوريا، وأننا كلنا مشروع شهداء، يجمعنا الخوف الذي يلجم لساننا ويدفع بعضنا للتحدث عكس قناعاته وأفكاره… يجمعنا إحساسنا أن الحياة في سوريا مأساة، وأننا نحس كلٌ بطريقته أن كل شيء في هذا الوطن ذاهب إلى الموت، حتى النهار نحسه مصاباً بالاكتئاب وسوف يرتمي منتحراً في ظلام الليل.

– ما رأيكما بعصير الرمان…

وافق الزوجان وأبديا سعادة صريحة خجولة، تدفق حنو هائل من روحي نحوهما، رغبتُ لو أكون ساحرة وأدخل السعادة والطمأنينة إلى قلبيهما بطريقة ما، عرفتُ أنهما تركا حلب منذ شهرين بسبب القصف الفظيع على الحي، وأن بيتهما – عش الزوجية – الذي كل غرض فيه جديد، واختاراه بعناية وفرح وحب، قد دُمّر، حدثني زوجها أنه يعمل نجاراً ولديه معرض للمفروشات بجانب المحل، وبأن كل شيء دُمر، ولم يعد يملك شيئاً…

كنتُ أنقل نظري بين وجهي العاشقين وأنا خاوية الذهن، كما لو أن كلماتهما تملك قدرة على محو كل شيء، كل شيء في ذهني، رغبتُ أن أسألهما كيف بإمكانهما أن يستمرا في الحياة وقد خسرا كل شيء، كيف يستطيعان أن يتكلما وأن يجدا الهمة للمشي، كيف تجد تلك الشابة الجميلة القدرة على الصراخ في وجه متسولة تدّعي أنها من حلب وتهين كرامة حلب وأهل حلب.

كنتُ أحتاج أن أمسك ورقة وقلماً وأكتب ما أسمعه منهما، كنتُ أحتاج أن أقوم بجردة حساب مع الحياة… كنتُ أريد أن أغوص في أعماق روحيهما لأعرف كيف تمكنا من التعايش مع المأساة!! كيف يمكن لإنسان أن يعيش وهو يتأبط المأساة…

بدا لون عصير الرمان بلون قلبيهما النازفين، تفجّر خزان من الحب والتعاطف في داخلي لدرجة قاومتُ دموعي، وقاومتُ رغبة ملحة وسخيفة أن أقول لهما مع كل رشفة عصير رمان: ألف صحة…

هدأت الشابة وحكت لي كم تحب حلب، أغمضتُ عيني وأنا أستعيد الصوت المزلزل الذي خلخل الهواء حولي (أبوس روحك لا تعطيها مالاً)… قالت لي إنها تبذل كل يوم جهوداً خارقة لتظل متعلقة بخيط الأمل، بأن حلب ستعود كما كانت…

ياه ما أسهل البوح بين المتألمين، لا شيء مثل الألم يلحم الناس بعضها مع بعض، مرارة الألم تحرق كل الشوائب وتذيب الحواجز بين الناس، فتتألق الأرواح بطهارة البوح والحقيقة… باحت لي كيف قاومت الرعب واليأس والخسارة بالصلاة وبأنها كانت تقضي ساعات تصلي وهي متكومة على الأرض، ولم تخجل من اعترافها بأنها لم تعد تصلي كالسابق لأن وحشية الألم بددت قدرتها على الصلاة…

كانت تنظر إليّ وتتجاوزني كما لو أنها تخاطب الحياة، كما لو أنها في حضرة قدر وحشي أمعن في تعذيبها وإذلالها، وشعرتُ بها تماماً كيف تبذل جهوداً تفوق طاقة البشر للتغلب على هبّات اليأس القاتلة، كم كان من السهل أن أتعرف على مشاعرها لأنني خبرتُ – ولا أزال – ذلك الألم الأشبه بالإعصار الذي يجعلنا نعيش كأن كياننا يُدوّم في غيبوبة محمومة، مذهولين ممّا يحيط بنا…

كان زوجها يصغي إليها واجماً، ويقاطعها من حين لآخر لرغبته أن يبوح بوجعه على طريقته، أكثر ما يؤلمه استغلال السوري للسوري كما قال لي، اختنق صوته وهو يقول: أليس من المعيب أن يستغلنا الناس في هذه الظروف، فتتضاعف أسعار المواد الغذائية وإيجار البيوت… أهكذا يساعد الإنسان أخاه الإنسان! أهكذا يساعد إنسان غير منكوب، إنساناً منكوباً! يستغله بدل أن يرأف به ويساعده…

كان كل سؤال يطرحه يكشف جرحاً ملتهباً في روحه…

كرر عبارة: كيف يمكن لأخي السوري أن يستغلني وبيتي ودكاني قد دُمرا في حلب… كان هدوؤه أقرب إلى الإحساس بالعجز حيال صفاقة البشر والحياة…

مسح دمعة انهمرت رغماً عنه من عينه وقال: لو كنتُ أعرف أن هذا ما سيحصل لنا، لو كنتُ أعرف أن بيتي ودكاني وكل ما أملك سينهار بومضة عين لكنتُ بعتُ كل شيء في حلب وهججتُ من بلد الموت.

قاطعته زوجته: لا، لا تقل ذلك، حلب روحي، سنعود إلى حلب سنعود…

انكشفت لي الحقيقة دفعة واحدة، فهلال تملك المقدرة على الاستمرار حية، معلقة بخيط الأمل بسبب عشقها اللا محدود لحلب…

مسحتُ على شعرها الأسود الناعم المشعث بحنان، قلتُ لها: اسمك جميل جداً، لم أعرف إنسانة بهذا الاسم من قبل…

ابتسمت وترقرقت عيناها بالدمع: لو عرفتني كيف كنتُ، كنتُ أتفنن في تسريح شعري، حتى، حتى، اختنق صوتها بالدمع… فأكمل زوجها ما أرادت أن تقوله: تصوري أنها حزينة أكثر شيء على ألبوم الصور، كانت هوايتها أن تصور كل مناسبة، لديها أكوام من الصور…

بذلت جهداً كي تقاوم غصة القهر من حنجرتها وقالت: تصوري كل صور طفولتي ومراهقتي وصور عرسي احترقت… الحريق التهم كل شي، كل شيء…

قلتُ لها محاولة أن أواسيها: الصور تبقى في ذاكرتنا يا هلال…

هزت رأسها غير موافقة، ولم تستطع أن تتكلم لأنها كانت تتأجج من الألم…

قالت: غير صحيح، غير صحيح، كنتُ أتمنى لو يكون معي ألبوم الصور فقط، كان سيساعدني كل يوم وكل لحظة كي لا أخسر معركتي اليومية ضد اليأس.

هنأتها على تلك العبارة، معك حق يا هلال، كل يوم هو معركة ضد اليأس…

شردت، استرخت ملامحها وشع بريق من عينيها، بدت أنها تستعيد تلك الصور، مستعيدة معها ومضات من سعادة، ضحكت وتدفقت بالكلام عن هوايتها منذ طفولتها بالتصوير. قالت لي تصوري، ذات مرة نجحت أن أصور فأرة صغيرة مختبئة في مطبخنا، صورت كل شيء، البراعم قبل أن تتفتح وبعد أن تتفتح، صورت وردة يابسة مختبئة في طيات كتاب، صورت حديقة السبيل مئات الصور، والأطفال يلعبون في أرجائها… صورت الشروق والغروب، والقمر و…

أخفت وجهها بين راحتيها وانخرطت بالبكاء… حل صمتٌ من رصاص بيننا إلى أن خرقه صوتها: كل الصور احترقت…

فكرت أن هذه الإنسانة المرهفة الرقيقة المشعة بحب الحياة، قد عُطبت في جوهر كيانها، نواة كيانها نـُخرت بهول المأساة، إنها تشعر كيف أصبحت عالقة في شراك اليأس والدمار، ولا تعرف كيف تفسر وحشية البشر ودموية الإنسان، إنسانة قد تفقد عقلها كملايين السوريين المروعين، إنسانة تحوّل عيشها إلى مأساة، ووجودها إلى لعنة…

كانت أعماقها محطمة كمنزلها ومحترقة كصورها، والرجل الذي أحبته وتزوجته خاسر مثلها، ومحطم الروح مثلها… كانا منفيين في بيت بسيط مرتفع الإيجار في اللاذقية وروحاهما هناك تحوم حول الدمار والحرائق في حلب…

عاشقان رائعان يقفان على حطام أحلامهما وعشهما الآمن ومستقبلهما… عاشقان مطرودان من جنة الحب حلب…

تواعدتُ على لقاء هلال وزوجها، اكتشفنا أننا نحب النوع ذاته من المعسل، الليمون مع النعناع، استطاعت الأركيلة أن تنتزع من وجوهنا الحزينة ابتسامة…

لكن كلما فكرتُ بهلال، أو استعدتُ ملامحها، يشرق قمرٌ مكتمل مشع في خيالي … اسمها هلال لكن انطباعها في روحي بدر.

(كاتبة سورية)

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى