صفحات العالم

هكذا يموت السوريون في الجهة الثانية/ غسان زقطان

 

 

يتكئ “سهيل الحسن” الضابط السوري الذي أطلق عليه لقب “النمر” على عصا طويلة وهو يتحدث في الهاتف مع شخص يواصل مناداته بـ “سيدي”، لا أسماء في المشهد، الجنود المغبرين الذين يحيطون بـ “النمر” وصلوا منذ قليل إلى تلك الوهدة التي وفرها الحرش خلفهم، خرجوا من فيديو مجاور كانوا يركضون فيه عبر واد معشب على شمالهم طريق سريعة وعلى يمينهم حرش وهم يركضون في الوادي المعشب.

على الطريق رتل طويل من حافلات هاربة بموازاتهم، وفي الحرش قناصة يطلقون النار على الراكضين في الوادي بحيث يأخذ المشهد هيئة حملة صيد بشرية، الجنود يواصلون الركض في الوادي والقناصة لا يتوقفون عن محاولة صيدهم من الحرش.

على الطريق السريع يتدافع رتل السيارات البيضاء، وهم يركضون في الوادي المعشب، وبين وقت وآخر يسقط أحدهم ولكنهم يواصلون الركض في طريقهم الى الفيديو الآخر حيث سيتكىء ” النمر ” على عصا طويلة ويتحدث مع الشخص الذي يخاطبه ب ” سيدي “، سيد ” النمر ” هو سيدهم أيضاً، ” سيدهم ” جميعا بما فيهم أولئك الذين سقطوا في الوادي برصاص قناصة الحرش.

الذين استطاعوا الوصول الى الفيديو الآخر يحيطون ب ” النمر ” ويتابعون حديثه مع الشخص الذي هو سيده أولا وسيدهم ثانيا، النمر، لا يبدو نمرا على الإطلاق، يقدم بتجرد تقريراً عسكرياً عملاتياً على الهواء، بلغة تحاول أن تجعل من موت هؤلاء الجنود انتصاراً مقصوداً يتحقق برغبة وامتنان عميقين، ويطالب السيد بالذخيرة، يركز كثيراً على الذخيرة ويحملها مسؤولية ما حدث في الفيديو الأول، ويعدد الحواجز التي انسحب منها المحيطون به ويذكر عددهم، 800 جندي بحاجة إلى ذخيرة، رغم أنهم أقل من ذلك بكثير، كثيرون منهم ظلوا في الوادي في الفيديو الآخر ولكن النمر لا يراهم، السيد على الطرف الآخر من الهاتف النقال لا يراهم ولا يرى النمر، الأخ الأكبر الذي حمل أحد الجنود صورته لا يراهم جميعاً ولا يعدّهم كما يفعل النمر، ولكنهم يرفعون صوره ولا يسمعهم ولكنهم يهتفون باسمه.

الجنود يتابعون المكالمة وفي لحظة محددة يبدؤون بالهتاف بحياة “بشار”، الاسم الوحيد في المشهد. الهتاف يذهب بعيداً ويعود الى الفيديو الأول حيث سقط أشقاؤهم في الوادي برصاص أشقائهم في الحرش، وظلوا هناك دون أن يتمكنوا من الإصغاء إلى المكالمة ودون أن ينظروا للصورة أو يشاركوا في الهتاف.

” النمر” هو اقتراح نظام الأسد “للجندي المثالي”، الولاء والشراسة والانضباط في سبيكة واحدة، أو هكذا قدمه “روبرت فيسك” في ال بي بي سي في يوليو (تموز) من الصيف الماضي، بعد الإنجازات الهامة التي صاحبت قيادته لمجموعات مختارة من الجيش في ريف حماة وكسر حصار سجن حلب، في المقابلة لم يتورع “فيسك” عن تقديم “النمر” كـ “شاعر”، ولتطعيم “الأسطورة” وتحويل قسوتها إلى إيمان مطلق يعترف “النمر” لـ “فيسك” بأنه لم يشاهد ابنه منذ أربع سنوات، وأنه لا ينوي مشاهدته قبل احراز النصر مشيرا في أداء يخلط البطولة بالوفاء إلى أنه قد يموت قبل ذلك.

الجنود أيضاً لم يشاهدوا أطفالهم، الجنود في الوادي ماتوا قبل أن يشاهدوا أطفالهم، ولكن “روبرت فيسك” لم يقابلهم، اختصرهم جميعاً بموتهم وحيواتهم بـ “النمر”.

موقع 24

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى