ابرهيم الزيديصفحات الناس

هلوسات لاجئ سوري/ ابرهيم الزيدي

 

قرأتُ ذات يوم لكاتب يمنيّ يكتب من صنعاء، عن بلاد فيها نساء وكهرباء في آن واحد. أريد أن أكتب من بيروت، قبل أن تبدل الأمكنة أحلامي، ويرتفع جدار الصمت بقرميد الغياب. سأكتب عن امرأة تحولت إلى قصيدة، وضاعت بين أقلام الأطفال ودفاترهم في مخيمات البؤس، خوفاً من الوقوع في إثم الفرح، وقد تعبت من حضورها في نفسي، علامات الترقيم تعجباً واستفهاماً، فقد كنت أعنيها بكل ما لم أقله. لا بل سأكتب من حلب، عن أطفال ناموا، ولم تستيقظ أحلامهم! إذ “ينبغي لنا أن نصمت عندما ينام الأطفال، لا عندما يقتلون”، لعل أسماءهم حين تستضيفها الصحافة، تلكز فطنة المنظمات الإنسانية، قبل أن تسقط في فرق التوقيت. ربما أكتب من حمص، أو عنها. ثمة امرأة لا تزال تنتظر عودة أطفالها من مدارس الموت! سآخذ نفساً عميقاً، وأكتب عن الرقة، تلك المدينة التي خلعت أسرارها بطريقة ماجنة، وأخبرها قبل أن يستيقظ الليل من ظلامه، أن الحب يحدث مرة واحدة. وأرسم سلّماً، وأصعد إلى السماء، لعلي أجد هناك من يرغب بطباعة مسوّدات هذا الوطن. وأغادر أحلامي، قبل أن تنتهي صلاحيتها.

سأغادر بيروت، وأكتب عن فيروز، فيروز التي تغني “أنا من بلد الشبابيك”، سأدسّ لآدم تفاحة أخرى، في أذنيه وليس في فمه، لعله يخرج من سطوة الجسد، ويعيش أمانه العاطفيّ لمرة واحدة، فهذا القتل المجانيّ ليس أكثر من دليل على إفلاسه العاطفيّ.

إذا كان سانتيانا يعتقد أن الله قد خلق العالم كي يؤلف بيتهوفن سمفونيته التاسعة، فهل ثمة أحد يعرف يقيناً لماذا خلق الله السوريين؟! أم أن تلك المعادلة القائمة على من ينخطف بالموسيقى، ومن يختطفه القناص، كانت ضرورية لتستقيم الحياة؟! سأغادر بيروت، ولن أكتب عن فيروز، ففيروز من بلد الشبابيك، وأنا من بلد فيه القذائف تقول للعابرين صباح الموت. سأكتب من دمشق، عن أغصان شجر الغوطتين الذي يتعانق ليلاً ليشعر بالأمان، سأبكي لوعة وحدتي في ذلك الفندق البائس، وأكتب رسالة لامرأة أمطرتني حبّاً منذ سنتين، وإلى الآن لم يجف منها قلبي. سأكتب عن أسرة سقطت من شريط الأخبار، ونحن نتابع برنامج Arab Idol أو عن القذائف التي تشارك الأطفال فرصتهم بين حصتين مدرسيتين، وتلعب معهم لعبة “الغميضة” قبل أن تفتح أمهاتهم عيونهن بحثاً عنهم في جداول فرح قد انتهت صلاحيته! سأكتب قبل “أن يتبخر الحزن، ولا يبقى لي سوى الملح، أذرّه على جراحي”، فطريق الموت السوري ليس عليه إشارات تحدد السرعة القصوى. سأرسم بالكلمات قطاراً محملاً جنوداً يغادر المحطة وحيداً، وامرأة تزغرد لأن ابنها حصل على بطاقة لاجئ في أسوج، وترك لها بيته كي تموت فيه، وياسيمنة تبحث عن عطرها في أزقة دمشق القديمة. سأكتب أحلامي كلها، وأنا أعرف أن الكتابة ليست سبيلاً إلى تحقيقها، بيد أن الأمل المكتوب خير من الألم المكبوت.

تجتاحني رغبة باقتحام حقول درعا بفظاظة الجائع، أتمنى أن أكتب عنها بلثغة سين أطفالها، فالحرب لا تزال بخير، تستيقظ باكرا، تسعى إلى رزقها منّا، وفي المساء تشاركنا سهرتنا العامرة بأخبارها! ولا أحد يسألنا عن الألم، فشهادتنا فيه مجروجة.

النهار

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى