صفحات مميزةياسين الحاج صالح

هل الثورة مكتفية أخلاقياً؟


ياسين الحاج صالح

تتناول هذه المقالة قضية سبق لكاتب هذه السطور أن مسّها على نحو عابر في مواد سابقة: هل الثورة السورية مكتفية ذاتيا على المستوى الأخلاقي، أم أنها بحاجة إلى توجيه أخلاقي من خارجها؟ يمكن طرح تنويعات لهذا السؤال نفسه على المستويين السياسي والمعرفي أيضا، أي عن مدى الاكتفاء الذاتي للثورة سياسيا، ونظريا. لكن سنقتصر هنا على المستوى الأخلاقي.

[1

تمايز بالتدريج موقفان واضحان في شأن قيم الثورة وأخلاقياتها. موقف أول يضيق بأي نقد للثورة أو اعتراض على ممارسات ثائرين، المقاومة المسلحة بخاصة وتكتيكاتها وسلوك بعض مجموعاتها، ويمتعض من التحفظ على أية توجهات سياسية أو إيديولوجية تعرض في مسار الثورة، وتبدو متعارضة مع قيمها التحررية والمساواتية؛ وموقف آخر يبدو بالعكس منشغلا بإظهار انحرافات الثورة عن قيم مقررة سابقة لها ومشابهة لنفسها دوما.

الثورة كاملة أو معصومة في نظر أصحاب الموقف الأول، نسميهم المتماهين، هي حق وعدل، وكل ما تفعله تاليا حق وعدل، فلا وجه للتحفظ على شيء من أنشطتها أو أعمال أية مجموعات محسوبة عليها. أو على الأقل أنه ليس مناسبا الآن، والثورة تخوض معركتها الكبرى، تسليط أي ضوء على ممارسات وخيارات مجادل فيها. أما ما هو كامل ومعصوم في نظر أصحاب الموقف الثاني، نسميهم المنفصلون، فهو معان وقيم يوالونها هم، يفاخر أصحابها بأنها هي نفسها قبل الثورة وأثناءها، ويفترض بالثورة أن تهتدي بها في كل حال. هذا يعادل عمليا مطالبة الثورة بأن تشبه حالهم وتتشبه بهم. وعدا ما في هذا الموقف من غرور، فليس في هذه الحال ما يغري بالتشبه، إن لم نقل إنه يغري بعكسه.

[ 2

وقد عرفت الثورة السورية أعنف نقاش في هذا الشأن بخصوص ظهور المقاومة المسلحة. رأى المنفصلون المتشددون أن التسلح مرفوض من المبدأ، وبينما قصر آخرون شرعيته على أعمال دفاعية. جرى تحويل السلمية إلى دوغما منفصلة عن الواقع، على نحو ما كان الثورة الحمراء العنيفة هي الدوغما المقررة في عقود سابقة. أما اشتراط الدفاعية فهو أمر غريب في مواجهة نظام فائق العداونية كالنظام السوري، فوق أن التمييز بين عنف دفاعي وعنف هجومي ليس سهلا دوما حتى بالمعنى التكتيكي. فهل يكون الرد على حاجز عسكري يطلق النار على بلدة ويقتل سكانها فعلا دفاعيا، فيما استهداف خطوط إمداده، أو محاولة السيطرة عليه فعلا هجوميا؟ هذا غير أن عنف الثورة كله عنف دفاعي من وجهة النظر السياسية والتاريخية، لا يتمايز عنه بدرجة ما إلا عنف مجموعات عقدية، تصدر عن فلسفة سياسية واجتماعية هجومية، مكتملة قبل الثورة وبغض النظر عن الثورة، وإن هيأت لها الثورة ظروفا مناسبة (جبهة النصرة وما شابه)، مثلها في ذلك مثل “فكر” المنفصلين وسياستهم. في الحالين لدينا “علم” مكتمل قبل الثورة وبدون الثورة، وليس هناك شيء تتعلمه من الثورة.

في مواجهة تلك الدوغما، هناك من يطور دوغما معاكسة، فيبارك عنف المقاومة المسلحة في كل حال، وينسب إليه سدادا تلقائيا، كأن ذاتا خفية معصومة توجه عمل مجموعات المقاومة الكثيرة نحو الغاية المرسومة. ولا يجد أصحاب هذا الموقف المتماهي المتشدد ما يقولونه حتى على نشاط المجموعات العدمية، مثل “جبهة النصرة”، التي تصدر كما قلنا عن فلسفة مغايرة كليا للمحركات الاجتماعية والوطنية للثورة ولذاكرتها.

والواقع أن الموقف من هذه المجموعات، والتعبيرات الدينية الإسلامية عن الثورة ككل، هو أيضا أحد محاور النقاش الحاد بدوره في الثورة. المنفصلون يجدون في ظهور المجموعات العدمية ما يسوغ مزيدا من الانفصال عن الثورة والاشتراط عليها، علما أن الأمر يتعلق بنتاج جانبي لحرب النظام، نال تضخيما كبيرا بفعل تفضيلات وسائل الإعلام الغربية. أما المتماهون فيقبلون الثورة كلها، ويقبلون كل ما يحدث في كنفها. وعلى نحو لا مفر منه في سياقاتنا السورية يختلط الموقف من هذه المجموعات بالحسابات والحساسيات الطائفية.

[ 3

المتماهون شعبويون، ينسبون صلاحا وعدالة أصليين إلى عمليات الاحتجاج والمقاومة الشعبية. وفي الغالب يجري رد الشعب إلى صورة إيديولوجية مبسطة عنه، تلغي عنه التركيب والتناقض والتعدد، مع ما هو معلوم من فوارق جهوية وطبقية وطائفية مهمة ضمن المجتمع السوري، أو حتى ضمن طيف البيئات المنخرطة في الثورة. ويفترض الشعبويون أن “الشعب” سعيد بموقفهم، وأنهم على هذا النحو يعبرون عن احترامهم له وثقتهم به. لكن الشعبوية اختراع نخبوي، وسياسة المتماهين تؤول إلى استبداد نخبوي جديد باسم شعب من صنع خيال طامحين إلى السلطة أكثر من أي شيء آخر.

أما المنفصلون فهم ينسبون الحكمة والصلاح والكمال إلى علمهم هم، ومآل سياستهم استبداد نخبوي، يحتكر الشرح الصحيح لقيم الوطنية والتحرر مثل حزب البعث ومثل الأحزاب الشيوعية، ويحقنها لجمهور غافل معرض للزلل في كل حال في غياب موجهين عقائديين يهدونه إلى الصواب.

على أن غير قليل من المنفصلين السوريين انتهازيون، يضعون قدما هنا وقدما هناك، ويقول كلاما قابلا لتأويلين. فإذا فازت الثورة لفتوا إلى ما في مواقفهم من اعتراض على النظام وأساليبه واعتباره “المسؤول الرئيسي” عن أوضاع البلاد، وإن فاز النظام كانوا “وطنيين” ومعادين للعسكرة والمقاومة المسلحة.

[ 4

لكن إذا كان التماهي بالثورة يُفقدها ما تحتاج إليه من نقد، والثورة أصلا فعل نقدي، وإذا كان الانفصال عنها يجعل النقد خارجيا وغير حساس لمساراتها المعقدة وتحولاتها السياسة والفكرية والنفسية، فهل من موقع أنسب يمكن لمواقفنا فيه أن تكون الأصوب؟ نقدر أن هذا الموقع هو الانحياز إلى الثورة والتفاعل مع عملياتها ومساراتها عن قرب، وتعديل تصوراتنا ومراجعة أحكامنا مع تطور العملية الثورية. الانفصال موقف لا ثوري تكوينيا، ينكر ذاتية الثورة وإبداعيتها وطاقتها التوليدية، ولا يشعر بالحاجة إلى تعلم شيء منها؛ والتماهي بدوره يلغي التفاعل حين ُيسبِغ على الثورة إيجابية وإبداعية مطلقتين، ويجعل من المثقف العام والناشط العام وكلاء سلبيين لسيرها “الموضوعي”.

ضد المتماهين، لا نرى وجها لاعتبار أفعال الثورة كلها متماثلة في القيمة الذاتية أو في التوافق مع التطلعات التأسيسية للثورة. هل يعقل أن تفجيرا انتحاريا تقوم “جبهة النصرة”، أو رمي جثث شبيحة مفترضين من سطح بناية في مدينة الباب في آب الماضي، أو توقيف فداء عيتاني من قبل لواء عاصفة الشمال بذريعة أن عمله “لا يناسب مسار الثورة” (يا له من تعبير!) لها القيمة الأخلاقية ذاتها لمحاصرة فرع الأمن الجوي في حلب، أو للعمل في مشفى ميداني في حي أو بلدة تتعرض للقصف من قوات النظام، أو مساعدة السكان في تسيير شؤون الحياة اليومية في “المناطق المحررة”؟ نميز كي نعمل على تغليب أنشطة الثورة التي تضر النظام وتنصر الشعب، وكي ننتقد ونساعد في عزل الأنشطة التي تسيء للثورة، كعملية مقاومة وكقيم تحررية.

وضد المنفصلين نرى أن الثورة عادلة جوهريا، وأن النظام معتد وإجرامي جوهريا، وأن أيا من ممارسات الثائرين الجائرة لا تضفي النسبية على جور النظام أو تجعل الثورة صراعا بين أشرار. ضد المنفصلين أيضا نريد تحمل المسؤولية كاملة عن وضعنا، وقول كلام واضح لا يقبل تأويلات متعددة، ودون ترصد زلات الثورة أو أي من مكوناتها. لسنا ضيوفا في ثورة شعبنا، ولا جالسين على الخط نتذمر من خشونة لعب اللاعبين. تسوؤنا ممارسات الثائرين الخاطئة أو الطائشة، ونسعد بأن لا تقع أو يقل وقوعها، لكن لا نستخدمها دليلا على صحة أقوالنا البائتة، ولا نحتاج إلى أخطاء الثورة للانتصار لأنفسنا الصغيرة.

إن قول الشيء نفسه قبل الثورة وأثناءها، أو منذ بداياتها حتى اليوم، يعادل في الواقع عدم الاعتراف بها، لا كفاعلية مقاومة وتمرد، ولا كعملية اجتماعية وتاريخية، ولا كأهداف لا تنفصل عن الممارسة العملية.

أما اعتبار القول الوحيد الصحيح هو ما تقوله الثورة الآن، فهو ينكر تاريخيتها، والحاجة إلى النظر إليها ككل خلال نحو 20 شهرا حتى اليوم، وليس إلى لحظتها الراهنة وحدها. فوق أن هذا الموقف يغفل الطابع المركب جدا للثورة، وتعدد أصواتها وتعبيراتها وتناقضها، ولا مركزيتها الشديدة. وبما أن تعبيرات الثورة وأصواتها المتعددة لا تتناسق ذاتيا باتجاه تحقيق أهدافها المفترضة، فيلزم أن تطور أنشطة تناسقية. وهو ما يقتضي أن نعترض على أفعالنا أو أفعال بعضنا باسم تصور للمصلحة العام للثورة تجري مراجعته على الدوام.

[ 5

نحن لا نأتي إلى الثورة خاليي الذهن، بل نشارك فيها حاملين معارف وقيما وتفضيلات، مثل جميع الثائرين، لكننا نمارس فيها دورا نوعيا، يتمثل في شرح ما يجري والاستناد إلى مسار الثورة الكلي لفهم تطوراتها في أي وضع محدد. المثقف المشارك في الثورة لا ينقل وعيا ناجزا إليها من خارجها، بل هو لا يكف عن مراجعة ما لديه من وعي من أجل فهم أفضل لمسارات الثورة وعملياتها وتحولاتها. قد يمكن القول إن الثورة تنقل إليه وعيا يختلط بوعيه ويدفعه إلى مراجعته وتجديد تفكيره في عملية تفاعل جدلية.

في كل الأحوال يتعلق الأمر بتمايز وظيفي ضمن الثورة، أو تطوير مكون ثقافي لها على نحو ما نتكلم على مكون مدني ومكون عسكري ومكون إعلامي إلخ، وليس بإدخال قيم من خارج على ما يتصور المنفصلون، ولا باكتفاء ذاتي على ما يفضل المتماهون.

وبهذا فالانحياز موقف تفاعلي، يحتفظ بمسافة نقدية هي التي يمحوها التماهي، لكنه يرفض النقد الخارجي الذي لا يمارس غيره المنفصلون. أثناء الثورة، وبالتفاعل مع مقاوماتها وما تتعرض له من حرب وحشية من طرف النظام، يحتمل للانحياز أن ينقلب إلى تماه أو يقترب منه كثيرا. ويصعب أن يقاوم الكاتب والناشط المنحاز إليها تطوير موقف نضالي وممارسة التعبئة السياسية، بداعي أنه مثقف ينتقد ولا يتماهى، وعمله بالأحرى هو التفريغ وليس التعبئة. أقر أن كنت عرضة لهذا التجاذب طوال الثورة، ولست متأكدا إني وجدت حلولا مناسبة لمشكلة تضيق المسافة بين الانحياز والتماهي. أما الانفصال فلم أكن مهددا به إلا في نظر بعض المتماهين المتشددين.

ولا أرى في الواقع كيف لموقفين متصلبين مثل الانفصال أو التماهي أن يكونا موقفين ديمقراطيين، أو يتوافقان مع ثورة ديمقراطية. واحدٌ منهما يرفض التفاعل مع عملية اجتماعية وسياسية كبرى كالثورة السورية، والآخر أيضا يرفض التفاعل. الأول ينسب الذاتية لمذهبه المكتمل سلفا، والآخر للسير التلقائي للثورة.

ما يمكن أن يؤسس لسياسة ديمقراطية وأخلاقية ديمقراطية هو الموقف المنحاز مبدئيا، والمتفاعل عمليا، والحساس للزمن والتحولات النفسية والاجتماعية للثورة. الموقف الذي لا يتخلى عن حق النقد من جهة، وعن التبصر في الوضع السياسي الفعلي من جهة أخرى.

[ 6

ثم أنه ليس هناك موقف عادل في الثورة ومنها إن لم يكن حساسا سياسيا، يستحضر مساراتها الفعلية وإكراهاتها وتغيرات تركيبها. وهذا يعيد النقاش كله إلى السياسة وإلى الملابسات الفعلية لتطور الثورة وظروفها وظهور مكوناتها المتنوعة، والإضطرارات التي فرضت عليها.

ومن الحساسية السياسية التنبه إلى دور الزمن ومراحل الثورة. وفقا للمعايير التي نعتمدها يمكن تمييز أطوار متعددة خلال نحو عشرين شهرا. أما في سياقنا فيمكن التمييز بين طورين كبيرين، طور كانت الثورة تعرف فيه بتطلعاتها الإيجابية إلى سورية جديدة، أكثر عدالة وحرية وإنسانية، فيما يبدو إسقاط النظام مدر ممر إلى تلك التطلعات، ثم مع طول إقامتنا في الممر أخذ يتلامح طور ثان صار يغلب فيه تعريف الثورة بهدفها السلبي، التخلص من النظام الأسدي. يصعب تحديد نقطة التحول: لعلها حصار وتدمير بابا عمرو في شباط 2012، لكن لا ريب أننا الآن في هذا الطور الثاني الذي يستأثر فيه الصراع الشامل ضد النظام بطاقات الثائرين السوريين.

لهذا التحول مستتبعاته المهمة. فحين يغدو الصراع مع النظام صراع حياة أو موت، تتراجع حمولته القيمية، ولا يحتمل خوضه ترددات ووساوس أخلاقية، وقد ينقلب إلى صراع مطلق أو عدمي. يغدو كسب المواجهة هو الهدف، ولا يبقى من الطاقات ما يتجه لشيء آخر. ويتصدر في هذا الضرب من الصراع القوى الأكثر تطابقا مع مواجهة مطلقة أو تقترب من أن تكون كذلك. المعضلة التي نجد أنفسنا فيها في مثل هذا الوضع هو أنه لا بد من خوص الصراع المفروض للتخلص من القاتل، لكن هذا النوع من الصراع الوجودي لا يحمل أية ضمانات ذاتية لأن لا ينقلب إلى صراع عدمي، هو هدف ذاته، ولا هدف له يتجاوزه أو يعلو عليه.

أقرب شيء نراه إلى مخرج من هذه المعضلة هو محاولة الجمع بين فاعلية المقاومة، مع تبين الإكراهات التي تواجهها هذه المقاومة من جهة، وبين استحضار البعد القيمي الخاص بالعدالة والحرية في ممارسات المقاومة من جهة أخرى. وينبغي الإقرار أنه في شروطنا السورية قلما يتماسك هذا الجمع بفعل حدة الصراع ذاته، وهو في كل لحظة معرض للتفكك إلى فاعلية بلا ضوابط قيمية، وقيم مجردة ومعزولة على نحو ما كان الحال قبل الثورة.

وهو ما يعززه في حالتنا السورية شرطنا الخاص. فليس للثورة مركز قيادي على شكل جبهة سياسية أو قيادة عسكرية أو وجهة إيديولوجية محددة، أو شخص يحظى بإجماع. وتاليا فلا مجال لتعميم أية تصورات أو خلاصات يجري التوصل إليها في أية مواقع من الثورة.

لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، وإن لم تثمر عمليا جهود الجمع بين فاعلية المقاومة وأخلاقيتها، فإنها تسهم في صون كرامة الثورة. المعركة مفروضة، والجهة العامة للعمل اليوم هي خوضها إلى حين يتحقق هدفها الأول، التخلص من النظام. ليس لدينا بديل آخر.

بين تشكيلة المواقف المعروفة في الثورة ليس هناك موقف لا يقود إلى معضلات وتناقضات، لكن خوض معركة إسقاط نظام الطغيان إلى النهاية هو، بعد كل حساب، الموقف الأقل تناقضا والأكثر عدالة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى